عمر نشابةرفع الصوت عالياً بوجه تلاعب محتمل في مسرح جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وعبّر الكثيرون عن إصرارهم معرفة «الحقيقة» في هذه القضية وتحقيق العدل، ألا يحقّ لغيرهم معرفة مصير أبنائهم وآبائهم وأحبائهم؟ ولماذا تستهزئ بهم السلطات عبر «تمثيليات» الحفر والطمر؟
قُتل عشرات آلاف البشر في لبنان منذ 1975، وأكثر الجثث وجد طريقه إلى مقابر فرديّة وعائلية، كما علم أقاربهم ومحبوهم بمصيرهم. لكن ثمة عدداً كبيراً من الأشخاص يبلغ، بحسب لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، أكثر من 17 ألفاً ليسوا في عداد الأموات، ولا في عداد الأحياء، ولا حتى المخطوفين. بل هم «مفقودون» لا يعرف أهلهم عنهم شيئاً. تسعى زوجاتهم وبناتهم وأمهاتهم إلى جمع المعلومات عن «اختفائهم» والأماكن التي يمكن أن يكونوا فيها. منهم من يعتقد أن مفقوديه في السجون الإسرائيلية، ومنهم من يعتقدهم في السجون السورية، بينما يرى البعض أن مفقوديه قُتلوا وأخفيت جثثهم في مقابر جماعية. لكن لم يعثر في لبنان حتى اليوم على مقبرة جماعية واحدة من مخلّفات الحقبة السابقة، ولم يجر أصلاً التفتيش عنها. يطرح ذلك تساؤلات عن جدّية السلطات الحكومية والقضائية اللبنانية في البحث عن مواطنين مفقودين. في 25 تمّوز 2000، تسلّم رئيس الوزراء آنذاك سليم الحص تقرير لجنة التحقيق للاستقصاء عن مصير المخطوفين والمفقودين، وجاء فيه أن «جميع المخطوفين والمفقودين الذين مرت على ظروف اختفائهم أربعة أعوام وما فوق، ولم يعثر على جثثهم، هم في حكم المتوفّين». لكن في أي مقبرة يزورهم أهلهم وأحباؤهم؟ ألا يبقى في ذهن هؤلاء احتمال ولو ضئيلاً أنهم ما زالوا على قيد الحياة؟
«تمثيلية» حالات
نشر مقال صحافي في 10 نيسان الماضي، ذكر احتمال وجود مقبرة جماعية من مخلّفات الحرب الأهلية في منطقة حالات. وكلّفت النيابة العامة قوى الأمن الداخلي أوّل من أمس إجراء عملية حفر في وسط أوتوستراد حالات، بهدف التفتيش عن المقبرة. لكن خلصت قوى الأمن أن أعمال الحفر «لم تثبت صحّة المعلومات التي أعطيت بهذا الشأن». وأجرت فصيلة درك جبيل تحقيقات مع عدد من الأشخاص الذين كانوا قد أعطوا معلومات عن وجود المقبرة الجماعية في المكان. وبناءً لإشارة النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي غسان عويدات، أوقف ثلاثة أشخاص ثمّ تُركوا لقاء سندات إقامة «لإدلائهم بمعلومات غير مطابقة للواقع». لكن يبدو أن السلطات القضائية لم تضطلع على المنهجية العلمية للتفتيش على المقابر الجماعية، ولم تعتمد قوى الأمن أول من أمس تلك المنهجية. بل على العكس، أُحضرت جرّافة إلى المكان، وبدأ الحفر دون العودة إلى خريطة مدروسة من دون استشارة قيادة الجيش التي كان لها سابقاً في المكان مطار.
المنهجية العلمية للتفتيش
إن المنهجية العلمية والمهنية في التفتيش عن المقابر الجماعية التي تسمح بالتأكّد من وجودها أو عدمه في مكان يشتبه فيه، لم تعتمد في لبنان. النتيجة السلبية لإغفال تلك المنهجية ليست عدم العثور على المقابر الجماعية، حيث لا وجود لتلك المقابر، بل الإعلان عن عدم العثور عليها في مكان وجودها. إن المنهجية العلمية تتطلّب التالي:
1ـــ إنشاء لجنة تحقيق تتألّف من ممثلين عن الضابطة العدلية التي تختارها النيابة العامة للتحقيق في هذا الأمر، وخبراء جنائيين في الكيمياء (TOXICOLOGY) والحمض النووي (DNA) والتصوير التقني من المباحث العلمية في الشرطة القضائية، وخبير خرائط (CARTOGRAPHER) وخبير جيولوجي.
2ـــ توفير حفارات خاصّة بأخذ عينات التربة، وكلاب بوليسية مدرّبة على التفتيش في الركام عن بقايا بشرية (وهي كلاب يستعان بها في كوارث الهزات الأرضية)، وأجهزة إضاءة وتصوير متطوّرة خاصّة للبحث والتنقيب، وتجهيزات لأخذ عينات مخبرية، وغيرها من التجهيزات الإلكترونية التي يستعان بها في مهام كهذه.
3ـــ العمل وفق خطّة مدروسة تتألّف من المراحل الأساسية التالية: أولاً التدقيق في المعلومات التي جمعت عن طريق الشهود وعن الوقائع التاريخية ووضع الفرضيات المختلفة، وهي تتضمّن الأشخاص والمكان والزمان والأحداث المفترضة. ثانياً أخذ عيّنات تربة وصخر من أعماق مختلفة وأماكن مختلفة في إطار البحث وفحصها، وجمع الخرائط الموجودة، والتدقيق في أقوال الشهود والمعلومات التاريخية للتمكن من رسم خريطة جيولوجية وسياسية متكاملة تحدد على أساسها أماكن الحفر. ثالثاً عدم التسرّع في عملية الحفر وتوسيع الحفرة قدر المستطاع، والتدقيق بمحتويات التربة، وإرسال عينات منها إلى المختبرات، وإبعاد من ليس له عمل عن المكان.
تقرير لجنة أبو إسماعيل
وكانت حكومة الرئيس الحص قد ألّفت بتاريخ 21 كانون الثاني 2000 لجنة تحقيق للاستقصاء عن مصير المخطوفين والمفقودين، ترأسها العميد أبو إسماعيل. وجاء في نص تقريرها: «حيث إنه لم يتبيّن وجود أي مخطوف أو مفقود على قيد الحياة على الأراضي اللبنانية، بعد التأكد من عدم وجود مخطوفين لدى جميع الأحزاب والتنظيمات التي عملت على الساحة اللبنانية حتى 1990. وحيث إن التنظيمات والميليشيات المسلحة قامت بعمليات تصفية جسدية متبادلة خلال الحرب، وقد ألقيت الجثث في أماكن مختلفة من بيروت وجبل لبنان والشمال والبقاع والجنوب، ودُفن البعض منها في مقابر جماعية موجودة داخل مدافن الشهداء في منطقة حرج بيروت ومدافن مار متر في الأشرفية ومدافن الإنكليز في التحويطة، وأُلقي البعض منها في البحر».