جان عزيزهل تحركت في اليومين الماضيين، ماكينة انتخابات رئيسية مستجدّة، هي خليط سرّي ومعقّد من عوامل سياسية وأخرى إعلامية وشعبية و«مصالحية»؟ لتوضيح السؤال وأبعاده، ولإلقاء بعض الضوء على المعنيين به، تجدر الإشارة بداية إلى تقرير خاص، كان قد تقدم به النائبان ــــ في حينه ــــ منصور غانم البون وفارس سعيد، إلى لقاء قرنة شهوان، عشية الانتخابات البلدية والاختيارية، في ربيع عام 2004.
النائبان العتيقان في معرفة المزاج الشعبي وسبل توجيهه، بنيا تقريرهما يومها، على أن الانتخابات البلدية المقررة، ستشكل في الشارع المسيحي، وخصوصاً في «المارونستان» من جبل لبنان، نوعاً من دورة للانتخابات الرئاسية المقبلة، بعد أقل من ستة أشهر.
بمعنى أن ثمّة من سيخرج من السلطة ويعمل على «ترتيب» نتائج الانتخابات البلدية وتركيب رؤساء البلديات والمخاتير ومجالسهم، في شكل يوحي بأن «المجتمع المدني» المسيحي والماروني، في اتجاه مغاير لمجتمعه السياسي، الذي كان جارفاً في اتجاه المعارضة السيادية آنذاك.
وعمد النائبان الخبيران، في تحليلهما هذا، إلى القياس على تجربة الانتخابات البلدية نفسها سنة 1998. يومها، وفي غفلة من السياسيين الموالين والمعارضين، قام فريق شهير من داخل السلطة بـ«تركيب» النتائج المقصودة في جبيل وجونية، وخصوصاً في المتنين الشمالي والجنوبي، وفي مختلف المناطق المسيحية البارزة، في شكل لم يلبث أن استخدم في الاستحقاق الرئاسي من العام نفسه.
هذا الفريق الخبير في مهنة «المقاول السياسي» و«المتعهّد الرئاسي» منذ عام 1976، رتّب الاستحقاق البلدي وجهّزه ورفعه إلى مركز الوصاية السورية في عنجر، مع التحليل والتوصية الآتية: المسيحيون سئموا من سياسييهم. وهذا هو الدليل الساطع، خذلانهم لهم في البلديات. ولذلك، فإن أفضل وسيلة لاستيعاب سلطة الوصاية للمسيحيين الرافضين، هي لا الحوار مع بكركي، ولا التجاوب مع مطالب المعارضة السيادية، ولا طبعاً التمديد للطبقة السياسية «المتعاونة» الراهنة، بل اللجوء إلى خيار آخر: قائد الجيش.
وإلا، فما معنى هذا التأييد الساحق بلدياً واختيارياً، من بين الفائزين في «مارونستان»، لتزكية العماد رئيساً، ورفع صوره واللافتات المؤيدة له في كل البلدات، أو البلديات.
ويؤكد تقرير البون ــــ سعيد، أن فريق «المقاول ــــ المتعهّد» المقصود، نجح في مخططه يومها، فانقلب على «منتوجه» السابق إلياس الهراوي، وأوصل إميل لحود، تحت وطأة «الاستطلاعات» الشعبية التي بلغت دمشق.
في اليومين الماضيين، تردد أن مؤشرات مماثلة لما حصل سنة 1998، بدأت تلوح على الأرض في «مارونستان» نفسها، وخلفها الفريق المقاول ــــ المتعهّد نفسه، ولكن وفق آليات انتخابية مغايرة، وفق اختلاف الظروف.
ويشير مراقبون مواكبون، إلى سلسلة من الخطوات في هذا الاتجاه، كان أوّلها اللقاء الذي عقد قبل أيام في قصر إميل لحود بالذات في ضبية، تحت عنوان دعوة الفاعليات البلدية والاختيارية للتشاور في الوضع الراهن. وما لبثت الخطوة أن ترددت في أمكنة أخرى. فصدرت فجأة دعوة مماثلة من رئيس اتحاد بلديات كسروان الفتوح، في خطوة شبيهة بخطوة ضبية، علماً بأن المتابعين للملف، يترقّبون تحريكاً مماثلاً في جبيل.
وفي شكل متزامن ومفاجئ على حد سواء، بدأ سلسلة من «التحريكات» المماثلة إعلامياً وعلى مستوى «تركيبات» المجتمع المدني شبه الرسمي. فصدرت دعوة لاعتصام على طريق قصر بعبدا، تحت عنوان الضغط من أجل انتخاب رئيس للجمهورية قبل أي شيء آخر.
ورغم العنوان البريء للتحرك، يلاحظ أنه الهدف نفسه الذي يسعى إليه فؤاد السنيورة في جولاته العربية، لجهة العمل على تعديل نص المبادرة العربية وبياني القاهرة، لناحية الفصل بين الانتخاب الرئاسي وما عداه، وضرب مبدأ السلّة الواحدة والرزمة المتزامنة الذي قامت عليه المبادرة في الأصل.
هكذا، تتضح أكثر الصورة، وتتبلور خريطة الفريق المقاول ــــ المتعهّد الجديد، في مكوّناته المتعددة: أولاً المستفيدون من مجرد الانتخاب الرئاسي لضمان لقب الرئاسة، ثانياً المستفيدون من تفكيك رزمة المبادرة العربية، من أجل إيصال رئيس يكون خاضعاً لشروط الموالاة، من دون أي ضمانات مسبقة في الشراكة والتوازن والوفاق. وثالثاً المستفيدون من مجرد الظهور في مظهر من أسهم في صنع العهد ورئيسه، من أجل ضمان موقع السلطة وصرف نفوذها وفق نهج الزبائنية الشهير طيلة عقود.
الماكينة الجديدة العتيقة تحركت، وهي تستحق
الرصد.