صديقين ــ كامل جابرمرة واحدة بعد تماثلها للشفاء من جروح يدها، قيّض لفاطمة عادل عبد الكريم بلحص زيارة بيت عائلتها في جبال البطم، جارة صديقين، وأفَلت بعدما وجدته خاوياً «من الروح»، عائدة إلى بيت والدها في صديقين، مسدلة الستار على حكاية عائلة كانت مطلع حلم التكوين مع زوجها قاسم خليل البالغ 26 عاماً. المجزرة؛ صورة واحدة بدّدت الحلم وألّفت الصدمة، في إطارها: زوج مزقته شظايا القذيفة فخرّ في لحظتها؛ طفلان غادرتهما الحياة، حسن البالغ سنتين على يمناها، ومحمد ابن الـ17 يوماً على اليسرى؛ وبكرها حسين (3 سنوات) يصرخ أمامها قبل أن يلفظ روحه ولا قدرة لها على إسعافه بسبب إصابتها، وإلى جانبها تمددت جثة شقيقها عبد الكريم (16 عاماً) الذي لازمها في «الهنغار» ليساعدها على أولادها الثلاثة. وحين استفاقت في «مستشفى الجنوب» في صيدا أدركت مدى حجم الكارثة.
تقول: «كيف يستطيع إنسان أن ينسى هذه التفاصيل؟ نصحني أهلي بعد 4 سنوات على المجزرة بأن أعيد تكوين عائلة ثانية تخفف عني ألم المجزرة، ففعلت ورزقت بولدين: حسين (7 سنوات) ونادية (6 سنوات)، لكن هيهات أن يغيب عن بالي ألم الجراح في يد كانت مهددة بالبتر ووجع الموت الذي سرق عائلتي. إنني لا أطيق العبور في قانا، لأن حياتي وأحلامي كلها مدفونة هناك، اسم قانا بحد ذاته يفطر قلبي. قانا سرقت مني أغلى أحلامي، لجأت إليها بحثاً عن الحماية من الموت بعدما ظننت أن في مقر قوات الأمم المتحدة انعدام الموت وصورة الأمان؛ فكان أن تحوّل إلى قدرنا المميت».
عولجت فاطمة على نفقة الدولة اللبنانية، وتلقّت جزءاً من تعويضها، وراح الجزء الآخر إلى عائلة زوجها «مال الدنيا كله لا يعوض مصيبتي، لكن كنت أتمنى على دولتنا أن تتابع أمر مقاضاة عدونا على ما فعله بنا في مقر الأمم المتحدة، بيد أن ما جرى في عام 2006 جعلني أدرك أن دمنا لم يزل مسفوكاً ولا من يسأل. في عدوان 2006 ألغيت حماية الطوارئ من حساباتي، وجعلت وجهتي مدينة صيدا، ويوم قيل عن التهديد بقصف المدينة صرت كالمجنونة، لا يهمني أن أعود إلى صديقين وأجد بيتي مهدماً، لكن، كيف لي أن ألوذ بعائلتي من مجزرة أخرى؛ لذلك توجهت إلى مستشفى حمود وافترشت الأرض مع ولدي حسين ونادية، كنت كالقطة التي تنقل أولادها من مكان إلى مكان بغية حمايتهم؛ صورة المأساة كانت نصب عيني، أصرخ كالمجنونة: أريد الحياة لعائلتي».
كانت عائلة عادل بلحص والد فاطمة كلها في قانا «توزّعنا في حاويات وأبى عبد الكريم ابني أن يترك شقيقته وأولادها وحدهم، فاستشهد معهم. أنا أبكي يومياً لأن المشهد لم يغب عن بالي، صورة ابني وأحفادي موتى مضرجين بدمائهم لا يمكن نسيانها. وصرنا نسياً منسيّا؛ لا أحد يذكرنا نحن أصحاب المجزرة إلا عندما نُسأل عن تفاصيلها، قدمت صديقين 41 شهيداً، ولا أحد يذكرها من الدولة أو غير الدولة، وتعبر البلدة من أولها حتى آخرها ولا تجد فيها ما يشير إلى أن نصف شهداء المجزرة كانوا من هنا».