زينة خليلتترجّل من السيارة، تمشي قدماً، تصرخ: يا أهل البيت... لا أحد يجيب. لا سياج ولا من يحرس المكان. تتقدّم خطوة وتعاود المناداة، فيرجّع الصدى بعضاً من كلمات أغنية «طلّوا حبابنا طلّوا، نسّم يا هوا بلادي»، يردّدها شبّان صودف وجودهم بالقرب من المكان.
هذا هو المشهد الذي قد يحتلّ ذاكرة الوافد إلى بلدة عين عكرين في قضاء الكورة، وتحديداً عند الوصول إلى موقع «قصر ناووس» الواقع عند أطرافها، بمعبدَيه المتماثلَين (جنوبي وشمالي) اللذين ينفتحان إلى جهة الشرق، ويحيط بكل منهما حرم مستطيل لم يبق منه سوى الأطلال شاهدة على أيام غائرة في الزمن.
اكتسبت البلدة اسمها من عين ماء عكّرت القوافل صفوها، كما تشير أحاديث أبنائها، في حين تعني ترجمة الكلمة في السريانيّة «العين الغزيرة». ندخل إلى حرم «قصر ناووس» عبر بوّابة ضخمة ذات جانبين مدرّجين يرتفعان نحو خمسة أمتار، تحوطهما بقايا حجارة مرصوفة كانت تؤلّف في الفترة الرومانية سوراً منيعاً ضخماً يحمي المكان ومحتوياته.
وفي جولة على أرجاء المعبد الواقع في الجهة الجنوبية، الذي تزيّن بوّابته أشكال مختلفة منحوتة ببراعة لم تقوَ عوامل الزمن على محوها، يتيح درج صغير، لا يزال محتفظاً بعمودَيه المستطيلَي الشكل بما يعلوهما من نقوش، إمكان الوصول بسهولة إلى داخل قدس المعبد الذي تتناثر في أرجائه حجارة الجدران وتيجان بعض الأعمدة المزخرفة بأشكال نباتيّة، ومعالم ستة أعمدة شاهقة مرتفعة إلى نحو ثمانية أمتار، رُمّم اثنان منها فعادا إلى سابق عهديهما. كانت تلك الأعمدة تزيّن مدخله بتيجانها الكورنثية الشكل. وفي مقابل مدخل هذا المعبد، تبدو للعيان بقايا المذبح والمصطبة التي كان يوضع عليها تمثال الإله.
أما المعبد الشمالي، فقد دُمّر القسم الأكبر منه، ولكن تمثال «الإله اليوس» ــــ إله الشمس عند الرومان ــــ المنقوش على أحد الحجارة المرمية أمام مدخله لا يزال يشهد على فترة العز ويحدّد هوية إله المعبد. ولم يبق في زوايا هذا المعبد سوى بعض الحجارة المرصوفة وجرن معصرة وبقايا أعمدة سلمت من النهب، في حين تحوّل «قدس الأقداس» فيه إلى تلّة من الحجارة.
تجدر الإشارة إلى أن الموقع كان قد تحوّل خلال الحرب الأهلية إلى مركز عسكري للجيش السوري. فجرفت أرضيته بالجرافة، ونبشت أرضه، ونهب ما في باطنها. ويمكن للزائر أن ينسى هذا المشهد المحزن حينما يتوجه إلى زاوية الموقع ويتأمل جمال المشهد الذي يطلّ عليه: فالمعبد يشرف على سهل الكورة ــــ زغرتا بأكمله، ويمتد أفقه حتى البحر.