إبراهيم الأمينيبدو أن رفض الولايات المتحدة والسعودية دعم تسوية لبنانية داخلية في وقت قريب، يقود نحو استنتاجات خطيرة، أقلها دفع البلاد تدريجاً نحو مواجهة داخلية من النوع الذي يفتح الباب على توترات شديدة في الشارع. والزيارة التي قام بها مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الاوسط ديفيد ولش لبيروت أكدت الوجهة الأميركية غير الراغبة في تحقيق تسوية في لبنان خلال وقت قريب.
ويبدو أن السبب ليس لبنانياً فقط، بل ينطلق من كون التسوية في لبنان تتطلب اعتماد منطق مختلف في إدارة العلاقات مع الدول البارزة في المنطقة، وخصوصاً مع سوريا وإيران، كما سيلزم السعودية وآخرين التعامل بواقعية أكبر مع الدور السوري في لبنان، وهو أمر سيكون له انعكاسات لا ترغب أميركا ولا فريقها في لبنان في الوصول إليها.
ويكفي تعداد نتائج أي تسوية، ولو غير متكاملة، لإدراك سبب إحجام الولايات المتحدة عن دعم التسوية. ومن هذه النتائج:
أولاً: إن التسوية حتى تكون قابلة للحياة، ولو لفترة مؤقتة، تتطلب نوعاً من التواصل بين سوريا والسعودية ومصر، وسوف تنشأ من الحوار حالة هدوء مكان التوتر الحاصل حالياً، ما سينعكس لملصحة سوريا التي لا ترغب في استمرار خلافاتها مع الرياض والقاهرة وتقول ذلك علناً بل رغبت إلى دول عربية أخرى أداء دور
توفيقي.
ثانياً: إن التسوية الممكنة في لبنان تعني عملياً انتخاب رئيس توافقي، ولو كان شخصاً غير العماد ميشال سليمان، الذي يبدو أنه بدأ يتضرر هذه المرة من حركة بعض حلفائه مثل النائب ميشال المر. وهذا سيعني أن ورقة الابتزاز التي تستخدم ليل نهار ضد دمشق وطهران وضد المعارضة ستسقط، وينفتح الحوار من جديد بين هاتين العاصمتين وأميركا والسعودية، وبين الأخيرتين والمعارضة، ويتراجع الضغط الإعلامي والدبلوماسي عليها بحجة أن المعارضة تمنع انتخاب رئيس للجمهورية.
ثالثاً: إن التسوية تعني التوافق على حكومة تدير البلاد بصورة مختلفة عن الواقع الذي قام منذ تولي فريق السلطة الحكومة. وهذا يعني أن حصة المعارضة في الحكومة، ولو اقتصرت على ما دون الثلث المعطل، سوف تمثّل منصة تتيح لها منع فريق السلطة من السير بقرارات سياسية واقتصادية وأمنية تسبّب ضرراً للبلاد من وجهة نظر المعارضة.
رابعاً: إن التسوية سوف تتيح التوصل، ولو بشق النفس، إلى قانون انتخابي غير القانون الحالي، ما سيفتح الباب أمام تعديل للواقع السياسي والنيابي الذي يتحكم في البلاد. وهو تغيير يعرف الجميع، ولا سيما فريق السلطة، أنه سيأتي على حسابهم، وسوف يعطي المعارضة مكانة متقدمة. كما أن التمهيد للانتخابات سيكشف فريق 14 آذار بصورة تجعله أكثر من فريق. وسيجد أقطاب من هذا الفريق أنفسهم في مواجهة بعضهم في بعض المناطق. كما أن الانتخابات ستنتج تحالفات أقل توتراً من التحالفات القائمة حالياً، حتى لو جرت تعبئة الشارع على خلفيات مذهبية أو طائفية.
خامساً: إن التسوية ستنتج استقراراً سياسياً ينتج استقراراً أمنياً، وبالتالي نوعاً متقدماً من الهدوء وانفراجات اقتصادية، ما يمنع أصحاب حملات التعبئة المذهبية والطائفية والسياسية من المضيّ بها أو يخفف من وتيرتهم، ما يقلص هوامش المناورة الأميركية والإسرائيلية الهادفة إلى إيقاع لبنان في فخ الفتنة المذهبية. وهو أمر سوف يريح معارضي تيار المستقبل بين السنة، كما يريح المقاومة ويعيد الوهج إلى خطابها التعبوي ضد إسرائيل.
سادساً: إن التسوية سوف تدفع إلى بحث من نوع قليل التوتر في العناوين الاختلافية الكبرى، من سلاح المقاومة إلى العلاقات اللبنانية ـــــ السورية. وبالطبع سيكون الكلام السياسي الرسمي خالياً من التوتر الذي يتحكم في لغة السلطة اليوم، وبالتالي فإن فكرة الحوار بشأن المقاومة ستعود إلى النقطة التي توقفت عندها أعمال لجنة الحوار من جهة، ونتائج حرب تموز من جهة أخرى. وهو أمر سيقلص إلى أبعد الحدود الضغوط المفتوحة على المقاومة الآن، رغم أن المقاومة تتصرف طوال الوقت على أساس أنها أمام حلقة من الأعداء أو غير الراغبين في تعاظم قدراتها.
سابعاً: إن التسوية ستؤثر أيضاً على أكثر الملفات دقة في الوضع الداخلي، وهو ملف المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حيث إن سجالاً داخل السلطة التنفيذية الجديدة سوف يترك تأثيره على سلوك القضاء الحالي في هذا الملف، كما ستترك أمور كثيرة إلى ما ستقرره المحكمة الدولية، علماً بأن الأمور تسير الآن في هذه الوجهة، لولا توتر بعض أركان فريق السلطة غير الطبيعي إزاء الحديث عن الاعتقال التعسفي للضباط
الأربعة.
ثامناً: إن التسوية ستفتح الباب أمام إحياء العناوين الاقتصادية والاجتماعية على نحو يعيد ترتيب الأمور بطريقة مختلفة، ويعدل شكل الاصطفافات القائمة، حيث يصعب توحيد الفئات اللبنانية المتضررة من السياسات الاقتصادية التي تتبعها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة والتي تمثّل امتداداً للسياسات التي كانت منتهجة قبل اغتيال الحريري.
وهو الأمر الأشد خطورة في وجه السلطة التي تريد إمرار مجموعة من القوانين والإجراءات تحت غطاء التوتر السياسي والطائفي الكثيف الذي يظهر أي تحرك اجتماعي اعتراضي الآن تحركاً سياسياً مدفوعاً من المعارضة.
بناءً على ذلك، هل من مصلحة الولايات المتحدة دفع الأمور نحو تسوية تكبل فريقها الموجود الآن في السلطة، وتمنح معارضيها في لبنان هامشاً أوسع من المناورة والتحرك؟
وهل هي صاحبة مصلحة في تسوية تخفف التوتر القائم الآن بين سوريا وبعض الدول العربية، كما تقلص من هامش التحريض على إيران؟
وهل الولايات المتحدة معنية بتسوية من شأنها تقليل حجم الاستثمار السياسي للتحقيق الدولي في جريمة اغتيال الحريري، أو الضغط أكثر لمحاصرة المقاومة في لبنان، أو لفرض نمط خاص من العلاقات بين لبنان وسوريا؟
يصعب تصديق أن واشنطن تريد تسوية. لكن ما هي فائدة الفريق اللبناني الحليف لها من انفجار يحصل؟