جان عزيز«يومذاك عدنا لا نشبه البشر في شيء. يومذاك أين منّا ومن توحشّنا الذئاب الكواسر... بطلقة واحدة في الرأس، من مسدس أو كلاشنيكوف، كان المارّة المسلمون، ومعظمهم من عمال المرفأ، يقتلون بلا تمييز. كنّا نكدّس الجثث في شاحنة... ثم نفرغ حمولتها من أعلى أحد الجسور... كنّا نقتل بلا هوادة».
إنها بضعة أسطر من شهادة جوزف سعادة، أحد «الشاهدين» على «السبت الأسود» في 6 كانون الأول 1975، من كتابه «الضحية والجلاد».
وحده «عمو جوزف»، كما كان يسميه رفاقه، كانت له جرأة الكلام. مع أن أمثاله ملأوا حروبنا. غصّت بهم كل القوى، في كل منطقة وجماعة وحزب. وحده، هذا الصحافي الفرنكوفوني العاشق للحياة ولولديه الشهيدين، عرف كيف يخرج عن صمت ضميره، ويطلق صرخة تطهير ذاكرته، ويقول «الحقيقة» التي لديه.
مثل جوزف سعادة وسابقته اليتيمة، تقفز إلى الأذهان اليوم، على حافة التراشق بأخبار إرث الحرب الماضية. يقول الفرنسيون إن «الحرب المدنية»، أو الأهلية وفق تطابق المفردتين في لغتهم، لا يمكن أن تتضمن شيئاً من «المدنية». وهاجس المقابر الجماعية خير دليل على ذلك.
منذ ظهور البوادر الأولى لمفاهيم القانون الدولي، بشأن مسائل «الحق الإنساني»، أو حقوق المدنيين خلال الحروب، ظل السؤال هاجساً: كيف نخرج من الحروب الأهلية إلى السلم المدني؟ بعد الحرب العالمية الثانية كانت محاكمات شهيرة، وكانت إشارة تشجيعية لافتة في إحدى فقرات معاهدات فيينا، عن «قوانين العفو»، كسبيل للعبور من الدم إلى السلم.
وطيلة نحو نصف قرن، استمر العالم في تكرار حروبه، وفي التناوب بين الوسيلتين. تارة محاكمات، وتارة قوانين عفو. وفي الحالتين ظلّت الحروب عوداً على بدء.
من أميركا اللاتينية، منتصف ثمانينات القرن الماضي، أطلّ الخيار الثالث. في الأرجنتين، سنة 1983، وبعد زوال ديكتاتورية الجنرالات، بدأ أول كلام عن أن طي صفحة المآسي، يفترض قراءة عميقة لتلك الصفحة. وقراءتها تفترض كتابة دقيقة لوقائعها وحيثياتها والتفاصيل الأكثر إيلاماً. بعدها انتقل النقاش والتجريب إلى التشيلي سنة 1990 وتشيكوسلوفاكيا سنة 1991، وصولاً إلى التجربة الشهيرة في جنوب أفريقيا سنة 1995، مع هيئة الحقيقة والمصالحة.
مطلع القرن الحالي، صارت هذه التجارب حاضرة في كل أنحاء العالم، من المغرب العربي إلى تيمور الشرقية، ومن قلب أوروبا الستار الحديدي السابق، إلى كل بقعة من بقاع «لاهوت التحرير» في أميركا الفقيرة المنسية جنوباً.
المهم أن العالم كله أجمع على أن تخطي الحروب، والأهلية منها تحديداً، يقتضي آليات محددة دولياً، ولا يمكن أي مجتمع يريد سلامه الداخلي، أن يشذّ عنها، أو يتخطى مرحلة من مراحلها. والآلية المقصودة تبدأ بمعرفة الحقيقة، كل الحقيقة، أيّاً كانت قساوتها وفظاعتها. وهذه المعرفة تقتضي كل أشكال التحرّي والتقصّي وفتح الواعي واللاواعي من مكبوتات الحروب والنفوس.
بعد معرفة الحقيقة يأتي ما سُمّي في أدبيات «الحق الإنساني» «جبر الضرر»، أي التعويض على الضحايا، مادياً أو معنوياً. وبناءً عليه تكون المرحلة الثالثة بالتوبة، توبة الجلادين صدقاً واقتناعاً. بعدها تصير المصالحة ممكنة، صحيحة وقائمة على أساس قابل للاستمرار. لتتوج عملية الانتقال هذه بخطوات لتخليد الذاكرة، لا محوها أو طمسها. وهو ما يتمثّل غالباً في النصب التذكارية ومقامات الضحايا وكتابات الحروب والاعتقالات والنفي والإخفاء القسري.
تؤكد شرعة «المركز الدولي للعدالة الانتقالية»، أن مثل هذه الآلية شرط لا بد منه ولا غنى عنه، لأسباب أربعة: أولاً من أجل تقوية الديموقراطية السليمة، التي لا يمكن أن تقوم على الأكاذيب. ثانياً انسجاماً مع واجب أخلاقي حيال الضحايا، الذين يمثّل تناسيهم استمراراً لظلمهم وإحياءً مستديماً له. ثالثاً لأن التاريخ يؤكد استحالة تجاهل الماضي أو إسقاطه بالكبت أو الحظر أو الطمس. ورابعاً كي لا تكرر الجماعات فظاعات لم ترسخ في ذاكرتها، على أنها فظاعات.
بين الحفريات المقامة على أوتوستراد حالات، وكل الحالات الأخرى المحفورة في نفوس اللبنانيين من كل مناطق هذا الوطن وانتماءاته، ثمّة مكان يفترض أن يكون واجب الوجود، لآلية إنسانية أخلاقية، تسمح بتطهير ذاكرتنا ومصالحتنا مع ذاتنا والآخر. ثمّة ضرورة للبحث عن حقائق حربنا «اللامدنية» كاملة، من دون الوقوع في المحظورين التسيّسيين: لا «نبش للقبور» بالمعنى الانتروبولوجي، ولا «دفن للحقائق» بمعنى المافيات المتحوّلة دولة ولغة دولة. بين الاثنين ثمّة ضرورة لحقيقة منبوشة من إرادة السلام، لتدفن كل قبور الحروب.
في ختام كتابه المقضّ المقلق، ينهي جوزف سعادة شهادته بالقول: «لا حسابات عندي، ولا دين عليّ أؤدّيه للبشر... قصتي أعالجها لاحقاً بيني وبين الله».
غفل «عمو جوزف» سهواً ربما، عن أن «الله» الذي يحاكيه، يدرك أن الحقيقة وحدها تحرّر، حين تُعرف.