مهى زراقطنظمت «مؤسسة الحريري للتنمية البشرية المستدامة» نهاية الأسبوع الفائت (16 و17 نيسان) ورشة عمل للإعلاميين، هدفت إلى «تمكين المرأة». المحاضرات والنقاشات التي دارت على مدى يومين في فندق «كراون بلازا»، ارتكزت على بحث أعدّته الدكتورة نهوند القادري، لم تخلُ نتائجه من تحريض وإعادة نظر في الكثير من مسلّمات العمل الإعلامي
نبدأ من النهاية. زميلة في إحدى الإذاعات تعدّ برنامجاً صحياً، والمرض الذي تعالجه الحلقة يصيب الأطفال.
ـــ من هم الضيوف الذين قد تستضيفينهم في برنامجك؟
ـــ طبيب، أمهات...
ـــ ماذا عن الوالد؟
ـــ الوالد؟ لا أعتقد أن الموضوع يهمّه، الأم هي من يهتم بالطفل.
ـــ ماذا لو أعدتِ التفكير في الضيوف، واستضفتِ والداً؟ من يمكنه أن يخبرنا شيئاً عن مشاعر الوالد عندما يكون طفله مريضاً؟
يمكنكم أن تتوقفوا قليلاً عن القراءة الآن، وتتذكروا: هل قرأتم يوماً، أو شاهدتم، تحقيقاً إعلامياً أو برنامجاً تلفزيونياً يعرض لقلق الأب على مرض طفله؟ للمشاعر التي يحسّها؟ لرغبته في تقديم المساعدة وشعوره بأنه محروم من القيام بهذا الدور؟
ننتقل إلى مثل آخر. تعدون تحقيقاً عن القانون الانتخابي. من هي الشخصيات التي تُسأل رأيها؟
ـــ خبراء في التشريع، نواب، قانونيون...
ـــ هل أدرج أحدكم اسم امرأة على جدول المقابلات التي ستجرى. ألا يمكن أن يكون لها رأي مختلف في هذا الإطار؟
يمكن القياس على هذين المثلين، للانطلاق في البحث عن آليات عمل جديدة في الإعلام، الهدف منها تحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع عادل للأدوار بين الجنسين: الرجل والمرأة. أي إقحام الرجل في مواضيع تعدّ، وفق الصورة المنمطة، نسائية؛ والعكس صحيح.
هذا، بشكل مباشر، ما يمكن استخلاصه من ورشة العمل التي استضافت نحو عشرين إعلامياً من مختلف المؤسسات الإعلامية في لبنان: محطات تلفزيونية، جرائد ومجلات. وهي خلاصة يمكن الاعتقاد بسهولة تطبيقها في الممارسة الإعلامية اليومية... لكن ليس إذا دخلنا في تفاصيل ورشة العمل، والعقبات التي طرحها الإعلاميون أنفسهم، وكانت اجتماعية، دينية، اقتصادية.
غياب الرجل
أولى العقبات كانت غياب الرجل الإعلامي عن ورشة العمل. مرّة واحدة استقبلت القاعة ثلاثة رجال سوياً، في مقابل عشرين سيدة. صوت الرجل جاء ليقضي على كلّ أفكار «الجندرة» التي كانت بدأت تترسّخ في أذهان السيدات.
يجب الاعتراف بداية بأن غموضاً كان يحيط بفهم مصطلح «الجندر»، وكانت تعليقات المشاركين في ورشة العمل الأولى تركز على حقوق المرأة والحركات النسائية. التوضيح جاء سريعاً وتركز تباعاً: «الجندر ليس غاية، بل وسيلة. المطلوب تعزيز العدالة الاجتماعية وتحقيق التكافؤ بين المواطنين والموطنات». الغموض نفسه كان يلف نظرة الرجال المشاركين إلى المصطلح. لهذا ربما جاءت مداخلاتهم مثيرة للجدل، وكثيراً ما تحوّل النقاش في القاعة إلى سجال بين رجل يرمي جملة، ونساء يستفزهنّ ما يسمعن. أمثلة:
رجل 1: «أنا أرفض دعوة سيدة مقيمة في المناطق النائية إلى مغادرة بيتها الزوجي إذا صفعها الزوج. قد تنتقم لكرامتها، لكن من يتحمّل مسؤولية العائلة التي ستنهار إذا غادرت البيت. أعتقد أنه يجب على المرأة الاختيار بين السيئ والأسوأ».
رجل 2: «الإعلام صورة، الصورة جمال والجمال امرأة». و«أرفض توظيف فتاة في قسمي، لأني لا أتحمل مسؤوليتها إذا غادرت العمل في وقت متأخر».
رجل 3: «من تكتب عن مشاعرها عندما تختلي بنفسها ليست صحافية بل مراهقة وتعاني عقداً نفسية».
رجل 4: «أرفض القول إن المرأة مهمشة إعلامياً. عدد الإعلاميات يفوق الإعلاميين بكثير، وعندنا في المؤسسة يحتللن مراكز القرار. ثم إن الرجل لا يصفع زوجته إلا إذا أفقدته أعصابه».
وإذا كانت هذه عينة من آراء الرجال الذين حضروا ورشة العمل، ويفترض أنهم اطلعوا مسبقاً على برنامجها وهدفها، يصبح مفهوماً (إلى حدّ ما) إحجام المؤسسات الإعلامية عن إرسال إعلاميين رجال للمشاركة فيها، وهو ما كانت طلبته المنظِّمات من الوسائل الإعلامية المدعوة.
نتائج التقريرللإجابة، بحثت القادري على ثلاثة مستويات: المرأة المرسلة، والموضوع والمتلقية. في المستوى الأول، راقبت الحضور الجندري في المضامين الإعلامية عبر: نشرات الأخبار، الحوارات السياسية والاجتماعية، البرامج الصباحية، البرامج الترفيهية، البرامج الكوميدية، المسلسلات والإعلانات.
وبحث المستوى الثاني في الحضور الجندري على صعيد المرسلين الذين شملتهم عينة المقابلات. وتناول الجزء الثالت الجندر على صعيد الجمهور، وتضمن تفضيلات الجمهور المشترك في حلقات النقاش، وظروف المشاهدة والاستماع والقراءة وطرائقها.
المضمون الإعلامي
أبرز النتائج التي خلص إليها التقرير على مستوى المضامين: احتكار رجال السياسة عناوين نشرات الأخبار ومقدماتها وفقراتها الأولى، واستدعاء المرأة كشاهدة أو كحالة، لا سيما في الفقرات الأخيرة من النشرة (ضحية، عاطفية، مشاهدة) ومتقدمة على الرجل في الأخبار المتفرّقة (الغريبة غالباً).
أما في البرامج الصباحية التي يصوّب فيها المعلنون أهدافهم، فيبرز التنميط الجندري، وكانت للرجل مسؤولية الإعداد والإخراج، فيما أوكلت للمرأة مهام التقديم والترويج. واعتمدت البرامج الحوارية الإذاعية والمتلفزة «آليات عرفت أين تستبعد المرأة وأين تبرزها، وبقي خلالها الرجل هو الثبات والمرأة هي التي تتحرّك نحوه».
وفي برامج الترفيه «كان الرجل متحكماً في إعداد البرامج الترفيهية وإخراجها، متعاملاً مع المرأة على أنها عامل جذب للبرامج، مرسخاً تنميطاً حديثاً قوامه أن شعور المرأة بأنوثتها لا يكتمل إلا عبر تحقيق المعايير الجمالية التي حددها المجتمع الاستهلاكي». ولم يختلف الأمر في البرامج الكوميدية، حيث «انعكس احتكار الرجل للحياة السياسية في لبنان في البرامج الانتقادية الساخرة من هذه الحياة، مع سخرية مضاعفة من كلام المرأة في السياسة وإبرازه على أنه كلام سخيف وساذج». وفي الصحافة المكتوبة «كان حضور المرأة في الصفحات السياسية والاقتصادية والرياضية والرأي ضعيفاً، رغم حضورها المتزايد بحكم المهنة». أما الإعلانات فساهم الحضور الجندري فيها في «بناء مفاهيم المؤنث والمذكر، مستخدماً أسطورة الحداثة لإضفاء قيمة جديدة على السمات الأكثر تقليدية للمرأة».
الإعلاميون/ات والجمهور
أبرز نتائج التقرير على صعيد ظروف عمل الإعلاميين/ات، وجود نظرتين مختلفتين للمهنة «واحدة أنثوية مباشرة وأفقية تعطي الأولوية للتقيّد بالمتطلبات المهنية التقنية. وثانية ذكورية معقدة تعطي الأولوية للتقيّد بالمتطلبات الاقتصادية السياسية الاجتماعية للمهنة». وفي تقديراتهم للمواضيع الجاذبة للجمهور، أبقى الطرفان على النساء في الحيّز الخاص، وأفردوا للرجال الحيّز العام على مصراعيه. «وكان الرجال أكثر صراحة من النساء في تصنيف أنفسهم أقلّ إلماماً وأقلّ اقتناعاً بالمفهوم من النساء، وأقلّ سعياً لإدراجه في العمل، وفي ذهن غالبيتهم أن الجندر مفهوم يخصّ النساء فقط».
وعلى صعيد الجمهور، «بدا الرجال أكثر تحكماً بعملية المشاهدة من النساء». وأمام صورة المرأة في الإعلام وأسباب عدم الرضى عنها «التقى الجنسان على التعبير عن عدم رضاهم/هن عن الصورة الخلاعية للمرأة وتقدّمها في الحوارات السياسية، وافترقا في الطريقة التي ترجم كل منهما امتعاضه من متطلبات المعلن الذي يضع شروطاً لما هو مرغوب على الشاشة، أي المرأة الشكل».
هذه النتائج، التي تحمل في كلّ بند منها المزيد من التفاصيل، لم تقدّم اقتراحات جاهزة للعمل عليها، بقدر ما رمت مجموعة من الأفكار الحاضّة على التفكير في خدمة ثلاثة أهداف «تفعيل الحضور النوعي للإعلاميات وتحسين مواقعهن. إغناء المضامين الإعلامية وفتح آفاقها. تفعيل تجربة النساء في التعامل مع وسائل الإعلام».
أما على صعيد وسائل الإعلام في لبنان، فقد أوصى التقرير بـ«إعادة النظر في البرمجة، التراتبية التي تحكمها. إعادة النظر في طرائق العمل الإعلامي عبر إعطاء الشأن للتحقيقات وأسلوب التقصي، ومعالجة المواضيع السياسية والاقتصادية بطريقة متفهمة، أبعد من السلطة وأقرب إلى الناس». توصية قد تجد من يستمع إليها إذا قرأ التقرير كاملاً واقتنع المعنيون بأن المعلن يمكنه أن يلحق تغييرات المجتمع ولا يكتفي بإعادة إنتاج الصور المنمطة.


«المرأة والإعلام» في الأبحاث العلمية
سبقت ورشة العمل التي نظمتها «مؤسسة الحريري» (بالتعاون معمجلس الغنماء والإعمار وتمويل البنك الدولي) مجموعة من اللقاءات التمهيدية مع الإعلاميين، ناقشت موضوع «المرأة في الإعلام». في أحد هذه اللقاءات، عرضت الدكتورة نهوند القادري قراءة تحليلية في عيّنة من الأبحاث العلمية التي تناولت «المرأة في الإعلام»، وقد حملت نتائج هذه القراءة إشارات مهمة.
أبرز نتائج القراءة أن البحث في موضوع المرأة والإعلام «كاد يتوّج مجالاً بحثياً أنثوياً». وكانت لغة البحوث عاملاً محدّداً للاتجاهات التي سلكها الباحثون. البحوث الصادرة باللغة الفرنسية بحثت بالدرجة الأولى «المرأة كموضوع»، والأبحاث الانكليزية بحثت «المرأة المرسلة»، أما العربية فكان تركيزها على المرأة كمرسلة. وفي الحالات الثلاث، غابت المرأة المتلقية.
وتقدّم الباحثون/ات الأفراد كمجموعة بحثية على الجامعات الخاصة، ومن ثمّ على الجامعة اللبنانية كجهات مشرفة وناشرة للأبحاث في موضوع المرأة والإعلام.
كانت معظم مقاربات أبحاث العينة كمية، منطلقاتها الفكرية أسيرة «الباردايم» السلوكي، ترى أن لوسائل الإعلام مفعولاً سحرياً على الجمهور، منطلقة من سؤال: «ماذا تفعل وسائل الإعلام في الجمهور؟». والدليل على ذلك أن «نصف أبحاث العيّنة اتجهت للعمل على صورة المرأة في الإعلام، وتقدير الباحث/ة لأثرها على الجمهور، بغض النظر عن ظروف من أنتجها ومن استهلكها، وعن تقلباتها وتنوعاتها المتصلة بتبدلات السوق وتنوعاته».
وكانت معظم الأبحاث «بعيدة عن المقاربة الجندرية، ونظرت بغالبيتها إلى صورة المرأة بمعزل عن الرجل، وجهدت لتأكيد التنميط على اعتبار أنه أحادي الجانب». ولفتت إلى حاجة الأبحاث الذهاب «أبعد من تحليل المضمون الكمّي، وحتى الكيفي، الذي تؤول نتائجه إلى النتيجة المعهودة المتكرّرة (الصورة المنمطة)، نحو أبحاث تتناول آليات تمثّل الصورة في الإعلام، وآليات تمثّل الخطاب عن النساء في الإعلام».