جان عزيزأخيراً اقتنع نبيه بري بأن قرار «اللاحل» هو أميركي المصدر في الأساس، وإن كان يتقاطع مع مصلحتين مماثلتين، إقليمياً بين الرياض والقاهرة، وداخلياً لدى فريق السلطة. هذا ما يؤكده مصدر سياسي واسع الاطلاع على تفاصيل الحركة المتمحورة حول الأزمة اللبنانية. ويشرح المصدر بداية، أنه صحيح أن حسابات الموالاة في لبنان، وخصوصاً القسم المسيحي من نوابها، باتت مع استمرار المأزق الراهن، وعدم التوصل إلى أي تسوية. ذلك أنه بعد كل المحاولات الداخلية والخارجية لجس نبض الأطراف ومشاريع الحلول الممكنة، بات ثابتاً أن أي مخرج للوضع الراهن، يجب أن يمرّ في ثلاثة بنود: رئيس للجمهورية، حكومة جديدة، وقانون جديد للانتخابات النيابية. وفي جردة حسابية سريعة، يتبيّن لفريق الموالاة بالتالي، أن أي تسوية ستسقط فؤاد السنيورة عن موقعه قائماً مقام الرئيس، وستُفقد الفريق الحريري قسماً كبيراً من وزرائه «الموظفين»، والأهم أنها ستعرّض مقاعد مسيحيي قريطم لخطر انتخابي أكيد صيف العام المقبل.
وفي المقابل، فإن الاستمرار في المأزق الراهن يسمح لفريق السلطة باستدامة استئثار الحكم، وقد يؤدي إلى بلوغ الاستحقاق النيابي المقبل في ظل قانون الحريري ــــ كنعان، مما يسهل المهمة على هذا الفريق، وخصوصاً على مسيحييه، وتحديداً في بيروت والشمال. يضاف إلى ذلك رهان مسيحيي الحريري على انتزاع بضعة مقاعد نيابية من المعارضة في جبل لبنان، في حال استمرار الوضع على ما هو عليه، واستمرار قانون الحريري ــــ كنعان إطاراً وحيداً للاستحقاق الانتخابي.
هكذا تصبح الصورة المقارنة لدى فريق السلطة كالآتي: حل الأزمة الآن، يعني خسارة بعض السلطة فوراً، وخسارة الأكثرية النيابية بعد عام. بينما استمرار اللاحل منذ الآن وحتى سنة على الأقل، يعني القبض على كل السلطة راهناً، والأمل بالبقاء فيها بعد عام.
ويتابع المصدر نفسه، صحيح أيضاً أن حسابات «اللاحل» نفسها قائمة لدى الجهات الإقليمية المعنية بالوضع اللبناني. فالقاهرة مستفيدة دوماً من تحويل الأنظار عن أوضاعها الداخلية، كما عن تماسها الفلسطيني في غزة. ومستفيدة في الوقت نفسه من «الجهد» السعودي المستمر لإقناعها بالوسائل السعودية الممكنة والمعروفة، للبقاء على موقفها اللبناني الراهن.
والرياض مستفيدة من استمرار الضغط لبنانياً على دمشق، لحسابات شخصية ومذهبية «ونظامية» وإقليمية»، تعود إلى يوم طلبت من المسؤولين السوريين «اختيار» رئيس لبناني معين خلفاً لإميل لحود سنة 2004، وبادلتها دمشق بالرفض.
لكن رغم هذين الحسابين، الداخلي والإقليمي، يؤكد المصدر المطلع نفسه، أن القرار الأول باللاحل اللبناني يظل أميركياً. ويشرح هذا الواقع بالقول، إنه منذ ثلاثة أعوام، كانت أولوية واشنطن في لبنان ولا تزال، تذليل عقدة «حزب الله»، تمهيداً لكل ما قد يلي هذا التذليل. وتحقيقاً لهذه الأولوية، أقدم الأميركيون على إخراج سوريا من لبنان. لكنهم فوجئوا بأن النتيجة كانت تعزيز مواقع «الحزب» في سلطة ما بعد الوصاية السورية. بعدها جرّبوا «الاستيعاب» على طريقة «التحالف الرباعي»، فإذا بهم ينتهون إلى حكومة حامية «للمقاومة»، وإلى إيقاع حلفائهم في التناقض والحرج.
وفي مرحلة ثالثة، انكفأوا عن سياسة الجزرة إلى العصا الإسرائيلية الغليظة، في تموز 2006، من دون نتيجة أيضاً. وقبل أسابيع قليلة، ركبوا «بطارية» من الإجراءات المتقاطعة: ضرب «حماس» في غزة، نشر قطع عسكرية قبالة الشاطئ اللبناني، وحصار قمة دمشق، من دون جدوى حاسمة أيضاً.
اليوم، يؤكد المصدر نفسه، باتت واشنطن مدركة أنها أمام خيار من اثنين، لا ثالث لهما، للمضي في تحقيق أولويتها: إما الحرب الإقليمية الشاملة، وإما التسوية ولو الجزئية. وهما خياران كلاهما مستحيل. فالإدارة الأميركية الحالية عاجزة عن حرب كهذه، ورافضة لتسوية كتلك. والرئيس الأميركي جورج بوش، «كليم الله» في حروبه مع «الشر»، يملك منذ أعوام ولايتيه الثمانية، تجارب واضحة في هذا المجال. فهو أخفق في أفغانستان، ولم يعترف ولم ينسحب. ولم ينجح في بغداد، واستمر في المستنقع. وفي كلتا الحالتين كان قراره الوحيد، الصمود عند نقطة الغرق، وتوريث المشاكل إلى خلفه. فلماذا يشذّ عن هذه القاعدة في بيروت؟
لا حرب أميركية على لبنان إذاً، ولا تسوية فيه. يبقى «اللاحل» خيار واشنطن الوحيد، إلى أن يأتي من يحصد العاصفة.
وحده ميشال المر لا يزال على ما يبدو خارج هذه الصورة، يختم المصدر نفسه. ووحدها حسابات «أبو إلياس» لا تزال من زمن أواخر التسعينات، وأيام «طباخة» العهود الرئاسية بمختارين وبضعة لافتات وجمعية نسوة. فيما الواقع بات أكثر تعقيداً وتشابكاً من أيام المصاهرة الموقتة والحمل الدائم على الأعناق.