نقولا ناصيفتعاملت الموالاة والمعارضة مع جريمة زحلة على نحو مشابه لمقاربتهما كل موقف سياسي. ما إن يقلّل أحدهما وقع الحدث ــــ أو الحادث ــــ حتى يضخّمه الآخر، والعكس صحيح. وهكذا يسلكان حياله سلوك الاستغلال السياسي كي يعزّز كل منهما وجهة نظره في نزاعهما المفتوح. ما حصل في زحلة جريمة أولاً وأخيراً. إلا أن الإسهاب في قراءة نتائجها وآثارها على الأزمة الداخلية، أوحى لوهلة أن الصراع بين قوى 14 آذار والمعارضة انتقل من بعد سياسي إلى آخر أمني. من الشارع السنّي ــــ الشيعي إلى آخر مسيحي ــــ مسيحي يضاعف حدّة التشنج، وخصوصاً أن الطرفين الواقفين وراء القاتل والقتيل في آن واحد في جريمة زحلة هما فريقان رئيسيان في الموالاة والمعارضة: حزب الكتائب المنضوي في قوى 14 آذار، والنائب إلياس سكاف المنضوي في تكتل التغيير والإصلاح.
بيد أن ردود الفعل المتصلّبة التي تلت جريمة الأحد، تبسيطاً واستهوالاً، طرحت تساؤلاً حول هذا الحادث بالذات، ومدى ارتباطه بالخلاف السياسي القائم: هل هو مفتعل أم عابر ابن ساعته؟ بيّنت ذلك أيضاً معطيات أخرى موازية في أهميتها، منها:
1 ــــ أن القوى والأجهزة الأمنية تتصرّف على أساس أنها مستنفرة باستمرار لمواجهة أي اشتباك أمني سنّي ــــ شيعي يمكن أن ينفجر في أي وقت جرّاء الأزمة السياسية المفتوحة، وأزمة الثقة المتداعية بين طرفي النزاع. وهو المبرّر الذي يجعل الجيش ينشر جنوده على خطوط تماس سنّي ــــ شيعي في بيروت وعند مداخل ضواحيها، كأحياء البسطة وزقاق البلاط وكورنيش المزرعة ورأس النبع وطريق المدينة الرياضية، حيث تخوم الأحياء السنّية ــــ الشيعة. وقد أضحت هذه أقرب إلى خطوط تماس فعلية، الأمر نفسه بالنسبة إلى قوى الأمن الداخلي التي تحاذر بدورها أي موقف يدفعها نحو صدام مع أنصار المعارضة، في ظلّ الخلاف السياسي الذي جعلها هي الأخرى طرفاً فيه. ولذا تقصر مهماتها الأمنية على أحياء ومناطق لا تتولّد فيها حساسية حيال الفريق السياسي الآخر. وبسبب خشيته من خطوط التماس هذه، طلب رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط من أنصاره في وطى المصيطبة، الأسبوع الفائت، نزع صوره المعلّقة، تفادياً لاحتكاك يتسبّب بتلاسن في منطقة تمثّل هي الأخرى تخوماً درزية ــــ شيعيّة.
2 ــــ مغزى هذه الإشارة، في تقويم جهات أمنية واسعة الاطلاع، أن القوى الأمنية تتحوّط لصدامات سنّية ــــ شيعية، من غير أن تتوقع انتقال الاشتباكات إلى داخل الأحياء المسيحية. وهي أيضاً الذريعة التي حملت الجيش على تقليل نشر جنوده في المناطق والأحياء المسيحية، نسبة إلى انتشاره في الأحياء الإسلامية المختلطة أو المتاخم بعضها للبعض الآخر. وتعزّز الجهات الأمنية نفسها وجهة نظرها بالاستناد إلى الظروف التي رافقت الانتخابات الطالبية في عدد من الكليات الجامعية. كان التنافس على أشدّه بين أنصار الموالاة والمعارضة، وتحديداً بين الطلاب العونيين والكتائبيين والقواتيين في المناطق المسيحية، من غير أن تندلع صدامات أمنية بينهم، ما خلا حوادث فردية. يعبّر ذلك أيضاً عن التحييد الذي شاءته المراجع المسيحية المتنافسة عن مسرح الصراع السنّي ــــ الشيعي ذي المصادر الوثيقة الصلة بالتسابق الخارجي على النفوذ في لبنان بين السعودية وكل من إيران وسوريا. وما خلا حوادث أمنية عابرة لم تتطوّر في زغرتا والكورة، بين أفرقاء مسيحيين منتمين إلى الموالاة والمعارضة، مثّلت جريمة زحلة أول احتكاك أمني خطير بين فريقين مسيحيين منذ حوادث 23 كانون الثاني 2007 في الأحياء المسيحية التي حملت الجيش على التدخل للفصل بين أنصار التيار الوطني الحرّ والمردة من جهة وأنصار القوات اللبنانية من جهة أخرى.
ورغم أن التخاطب السياسي بين الفريقين المسيحيين المنضويين في الموالاة والمعارضة أشدّ حدة وعنفاً وتبادلاً للاتهامات والشتائم والإهانات أحياناً من ذاك الدائر بين السياسيين السنّة والشيعة، تجنّبا نقل الاشتباك السياسي إلى الشارع. بل تبدو الأزمة واقعة بين السياسيين المسيحيين أكثر من سواهم، بسبب الحجج التي يسوقها كل من الطرفين ضد الآخر لتحميله تبعة استمرار المأزق السياسي والدستوري وتعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية.
ولعلّ المفارقة اللافتة أن الفريق السنّي الذي يقود الموالاة والفريق الشيعي الذي يقود المعارضة وضعا حلفاءهما المسيحيين، الجالسين في المقاعد الخلفية، في مأزق المواجهة المباشرة وجهاً لوجه. عندما يستعر الخلاف السوري ــــ السعودي أو الإيراني ــــ السعودي يستيقظ النزاع المذهبي السنّي ــــ الشيعي في الشارع، وعندما تنوّمه البلدان تلك، تصبح أزمة لبنان مسيحية ــــ مسيحية.
3 ــــ سواء أصرّت الموالاة على وصف جريمة زحلة بالحادث المتعمّد، وأصرّت المعارضة على عدّه عابراً، فإن الجاني جوزف الزوقي ذو سوابق جرمية. فقد قتل قبل أعوام ابن أحد رجال الدرك وسُجن 12 عاماً، قبل أن يخلى سبيله بدفع فدية. وخرج من السجن قبل أشهر، وارتكب البارحة جريمة قتل مزدوجة، سرعان ما أضحت في صلب الخلاف السياسي. لم تكتفِ بأن تكون على صلة بالتسابق على النفوذ السياسي والشعبي والانتخابي في زحلة بين سكاف وحزب الكتائب، بل أدخلت في بعد أكثر تعقيداً، عبر ربطها تارة بوجود تشنّج مسيحي ــــ مسيحي جرّاء الصراع على الزعامة المسيحية وبرسم الاشتعال في أي لحظة، وربطها طوراً بالتآكل الذي يضرب الوضع الداخلي وينأى به عن أي حلّ وشيك ولا يعود في الإمكان الخروج من المأزق السياسي إلا بحادث أمني كبير، وربطها كذلك باستمرار شغور الرئاسة، الذي أصبح في قلب الانقسام المسيحي ــــ المسيحي.
بل لعلّ أخطر ما انطوت عليه مواقف الموالين والمعارضين، مسيحيين ومسلمين، حيال جريمة زحلة، تبريراً أو تضامناً أو تحريضاً، أنهم شرّعوا من خلالها باب الانتقال بالخلاف السياسي إلى الشارع المسيحي ــــ المسيحي لمجرد القول إنها جزء من أزمة النزاع المستمر بين الطرفين. يصحّ ذلك على المعارضين، إذ يقلّلون من وطأة ما حصل، وعلى الموالين إذ ينفخون في جمره.