نقولا ناصيفأعاد رئيس المجلس نبيه بري رسم سقف الأزمة الدستورية والسياسية وإطار حلّها، بتأكيد ربط الاتفاق على إعلان نيّات في موضوعي حكومة الوحدة الوطنية وقانون الانتخاب بانتخاب المرشح التوافقي لرئاسة الجمهورية قائد الجيش العماد ميشال سليمان. ومع أن موقفاً كهذا ليس جديداً، ولا يمثّل تراجعاً للمعارضة عن شروطها للموافقة على التسوية السياسية، إلا أن اقترانه بتأجيل الجلسة الثامنة عشرة أمس توطئة لتحديد موعد لجلسة تاسعة عشرة ستكون بدورها مرشحة للتأجيل الشهر المقبل، يشير إلى بضع ملاحظات باتت في صلب الأزمة المستمرة، والمستعصية على الحلّ تقريباً:
1ــــــ أن لا سقف لجلسات انتخاب الرئيس التي يدعو إليها برّي ويحدّد مواعيدها مرة بعد أخرى. وهي لا تعدو كونها محطات تقيس مدى تقدّم التفاهم بين الأفرقاء اللبنانيين واقترابهم من التسوية وتراجعهم عنها. الأمر الذي يحيل جلسات الانتخاب التي لا يكتمل نصابها، وكذلك مواعيدها، عدّاداً ليس إلا. لم تعد الجلسات هذه استحقاقاً دستورياً، ولا جزءاً من الآلية المنصوص عليها لانتخاب الرئيس الجديد. بل باتت متنفساً يقلل وطأة التشنج السياسي والضغوط المتبادلة بالتعويل على مواعيد وهمية لجلسات وهمية ما دامت المشكلة الفعلية ليست في لبنان.
وبعيداً من أي مقارنة مباشرة، انتخب الرئيس الفرنسي رينه كوتي عام 1953 من دورة الاقتراع الـ13 بعدما تعذّر على مرشحين اثنين آخرين متنافسين الحصول على عدد الأصوات المؤهلة للفوز، فانسحب جوزف لانيال ثم لوي جاكينو لكوتي من دون أن يترشّح الأخير. ومقدار ما تمثّل هذه سابقة في انتخاب رئيس فرنسي في ظلّ الجمهورية الرابعة، وكانت الجمعية الوطنية هي التي تنتخب الرئيس حينذاك، فإن السابقة اللبنانية اقتصرت حتى الآن على 18 جلسة انتخاب لم تنعقد، وعلى ثلاث دورات اقتراع أجريت في انتخابات 1970 كانت هي الرقم الأعلى. ومع أن دورات الاقتراع الـ13 المتعاقبة في فرنسا لم تحل انتخابات رئاستها أزمة دستورية، وإن بدا فوز كوتي توافقياً ضمنياً، فإن توالي جلسات الانتخاب في لبنان من غير أن يتم هذا الانتخاب جعل الاستحقاق الرئاسي حادثاً عابراً في تفاصيل سياسية مختلفة تنتقل من شهر إلى آخر، متجاوزاً وجود أزمة دستورية، حقيقية ومهدّدة للنظام والمؤسسات، وفاتحة أعراف خطيرة تجعل رأس الجسم تحت رحمة أطرافه وأعضائه الدنيا.
2 ـــ بات الخلاف على طاولة الحوار الوطني يماثل الخلاف على المبادرة العربية، إذ يقاربها كل من الموالاة والمعارضة على نحو مغاير ـــــ بل متناقض ـــــ للآخر. رئيس المجلس يرى في إحجام قوى 14 آذار عن العودة إلى الحوار موقفاً أميركياً يستحسن إبقاء الوضع القائم على حاله ما لم تتخلّ المعارضة للموالاة عن شروطها. والمقصود بذلك بالنسبة إلى واشنطن على الأقل، أن وحدة قوى 14 آذار وصمود حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وتماسك الغالبية النيابية أهم من انتخاب رئيس جديد للجمهورية في الوقت الحاضر. بدورها قوى 14 آذار تنظر إلى دعوة برّي إلى طاولة الحوار على اعتبارها مناورة تتوخى إمرار الوقت وإبقاء لبنان ـــــ أو نصفه على الأقل ـــــ ورقة ثمينة في يد دمشق في انتظار تطور ما على صعيدي تخفيف الضغوط الدولية عليها وإحراز تقدّم في علاقاتها المتدهورة مع السعودية. بذلك يسلّم الفريقان ضمناً بفاعلية دور الخارج ونفوذه في السيطرة على القرار اللبناني.
ورغم أن طاولة الحوار تكاد تكون الخيار الوحيد والأخير المتاح أمام رئيس المجلس، والموالاة والمعارضة في آن واحد، لإخراج لبننة التسوية السياسية والتصرّف ظاهراً بمنأى عن الخلاف السوري ـــــ السعودي، فإن تعارُض موقفيهما حيالها، بعد المبادرة العربية، يجعل الاستحقاق الرئاسي أكثر تعقيداً.
وفي واقع الحال يريد برّي طاولة حوار وطني بين أفرقاء لبنانيين لا تنتهي إلى مصير المبادرة العربية التي انطلقت بإجماع عربي لم يصمد أكثر من 22 يوماً، بين 5 و27 كانون الثاني، عندما رفضت سوريا ما فسّرته مصر والسعودية في بنود المبادرة تلك، ولم يكن تفسيرهما ذاك منبثقاً من إجماع الوزراء العرب أنفسهم عندما صاغوا مسوّدة المبادرة.
3 ــــــ يواجه كل من الموالاة والمعارضة مأزق رهانات إقليمية أخفقت، وكان من شأن نجاحها تعزيز حظوظ أحد الطرفين في الحصول على مقدار أفضل من المكاسب السياسية الداخلية. راهنت الموالاة على نجاح مسعى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة نقل ملف العلاقات اللبنانية ـــــ السورية إلى عهدة الجامعة العربية بما يتجاوز ورود هذا البند في قرارات قمّة دمشق، إلى الخوض الجدّي في هذا الملف بدءاً باجتماع استثاني لوزراء الخارجية العرب، فيشرفون هم على الحوار اللبناني ـــــ السوري لتصويب علاقات البلدين. تبنّت مصر والسعودية موقف الموالاة ولم تتحمّسا لعقد الاجتماع.
وراهنت المعارضة على خروج القمة العربية من دمشق بحدّ أدنى من حوار سوري ـــــ سعودي يفتح الباب على التسوية العالقة وإعادة بناء توازن سياسي داخلي يعبّر بدوره عن توازن النفوذ السوري والسعودي في لبنان. وسيكون عندئذ مكسباً سياسياً كبيراً لدمشق للمرة الأولى في لبنان منذ عام 2005. فإذا بكلا الرهانين يخفقان، ولا يبقى في يد الطرفين اللبنانيين المتنازعين إلا المبادرة العربية، وقد باتت حبراً على ورق. وبعد شهر تقريباً على قمة دمشق وقراراتها الختامية، لم يطرأ تطور ملموس وجدّي في الرهانين اللذين عقدتهما قوى 14 آذار والمعارضة: الجامعة العربية لم تضع يدها على ملف العلاقات اللبنانية ـــــ السورية، ولم تنجح في تنقية العلاقات العربية ـــــ العربية تبعاً للمهمة التي نيط بها الأمين العام للجامعة عمرو موسى.