strong>إيمان نويهض *«سقط عامل بناء فلسطيني (30 سنة) عن سقالة على علو أربعة طوابق ولقي حتفه. وقد عُدّ الحادث قضاءً وقدراً». تختلف جنسية العامل وجنسه وعمره ومكان عمله والنتيجة واحدة: وفاة أو عطب دائم أو إصابة بليغة، والسبب هو القضاء والقدر. إلى جانب المئات من ضحايا حوادث العمل، تسقط أعداد أكبر ضحية للأمراض المزمنة الناتجة من ظروف العمل، غير أنها لا تشخص هكذا، فتدرج تحت زميلاتها من الأمراض غير المهنية، وهنا لا قضاء ولا قدر.
ما زال الاهتمام بالصحة والسلامة المهنية غائباً عن أولويات الصحة والبيئة في لبنان، والأغلب من دول العالم النامي. والسبب ليس غياب الإحصاءات فحسب، فزيارة صغيرة إلى أي من الأحياء الصناعية أو الحقول الزراعية أو قرب بناء قيد الإنشاء كافٍ لكشف الأوضاع على حقيقتها.
تقع مسؤولية تأمين بيئة عمل سليمة وصحية ونظيفة بالكامل على صاحب العمل. وإذا كان حق الإنسان في العمل محور نقاش وتباين بين الاقتصاديين، فإن حق العامل والموظف في بيئة عمل صحية هو حق إنساني غير قابل للجدل. مسؤولية العامل تبدأ فقط عندما يلتزم صاحب العمل بالشروط المطلوبة كاملة، وغير صحيح أن للعامل حق الاختيار، فهو في أكثر الأحيان ممنون لأنه يعمل، ومستعد للعمل في أماكن خطرة على حياته وصحته مقابل زيادة في الأجر، ومستعد للتخلي عن بعض الضمان الصحي والاجتماعي لتأمين احتياجات اليوم. لا نستغرب إذاً، وهذه ظاهرة عالمية، أن الوافدين إلى بلد ما متى قلّ علمهم وتواضعت حالهم الاجتماعية وتلابست أوراقهم الثبوتية، زاد استعدادهم للعمل في الأعمال الخطرة دون سؤال أو اعتراض.
بدأ الاهتمام بموضوع السلامة المهنية مع توسع الثورة الصناعية، فدفع الآلاف حياتهم ثمناً للنمو الصناعي، وكان أمراً مقضياً، تطلّب الالتفات إليه نضالات طويلة ودامية، ترابطت مع تقليل أيام العمل وتقليص ساعاته. وكان المطلوب من العامل المصاب أن يثبت أن صاحب العمل لم يؤذه عن قصد، وأنه كان متيقظاً متنبهاً ولم يكن إهماله سبباً لهذا الحادث. بالطبع سقطت معظم الدعاوى، غير أن ما نجح منها كلف بعض أصحاب العمل الكثير من المال للتعويض. عندها جاءت قوانين طوارئ العمل لتضبط الوضع وتعوّض العامل عن إصابته وتعوّض عائلته في حال وفاته إذا ما حصل الحادث في مكان العمل أو في ساعات الدوام دونما سؤال عن المسؤولية. وتأخرت القوانين التي تعوّض عن الأمراض المهنية عقوداً عدة (وهي لم تطبق في لبنان حتى الآن، بالرغم من أنها جزء من قانون الضمان الاجتماعي سنة 1964)، لأن الربط بين معظم هذه الأمراض وبيئة العمل صعب، حيث إن ظهورها يتطلب سنوات عدة من التعرض وسنوات أطول لتطور المرض البطيء.
تغيّرت الصورة في زماننا هذا، فالخدمات أصبحت تستقطب أغلبية الفئات العاملة على حساب الزراعة والصناعة، والمرأة أصبحت تمثّل قسماً كبيراً من العاملين، فتبدلت بالتالي بعض مفاهيم الصحة والسلامة المهنية. نتكلم اليوم عن الصحة بمفهومها الشامل، فالمخاطر ليست كيميائية وفيزيائية وجرثومية وسلاماتية فقط، بل تتعداها إلى بيئة العمل الاجتماعية والنفسية، لتشمل العلاقات الإنسانية، ودوام العمل وتواتره، كما تتعداها إلى الحد من المخاطر الأرغونومية، حيث يجب أن تتلاءم طبيعة العمل وهندسته مع بنية العمال والموظفين لا العكس. وقد دفعت المرأة العاملة ثمناً باهظاً لإجبارها على العمل في أماكن وبيئات عمل ذكورية الأدوات والتصميم، إلى أن تطور إدراكنا لمفهوم الصحة والسلامة المهنية، حيث يجب أن يحمى كل العاملين من دون اعتبار لنوعهم الاجتماعي أو عمرهم أو عرقهم.
وما زال الاهتمام بالصحة والسلامة المهنية محدوداً في لبنان، «فالعين بصيرة واليد قصيرة» يقول أصحاب العمل والجهات الحكومية، وإن كان من مواقع ودوافع مختلفة. «وهمنا أن يجد المواطن وظيفة تستره وعائلته، وأن يؤمن العامل قوت يومه» يقول النقابيون. والجميع على صواب وعلى خطأ في آن. فالحجج قوية والأعذار مقنعة، حيث أن لا أحد يمكنه أن يزايد على حاجة أي منا للعمل في أي مكان لتأمين احتياجاته الحياتية، غير أن السعي لتأمين بيئة سليمة حق علينا وحق للعامل حتى نضمن أنه سيعود إلى عائلته وأحبائه في نهاية كل يوم عمل سليماً ومعافى وكامل الأعضاء، حتى يتمكن من الذهاب في اليوم التالي لتأمين لقمة العيش. إن مطالبة العمال والموظفين ببيئة صحية وسليمة من خلال ممثليهم ونقابتهم يجب أن لا ينفصل عن مطالبتهم بزيادة الأجور وتأمين الخدمات الصحية والدواء. والمشوار طويل!
* أستاذ في كلية العلوم الصحية
الجامعة الأميركية في بيروت