يحاول «التحالف الرباعي» في أدب الأطفال أن يخترق عالم «القارئ الصغير»، انطلاقاً من اللغة التي يفهمها. ولكن غالباً ما تصطدم محاولاته بعقباتٍ كثيرة، ليس أقلّها العلاقة الملتبسة بين أطرافه وانهماك الإعلام بقضاياه السياسيّة، بعيداً من أحلام هؤلاء الصغار
راجانا حميّة ـ ليال حداد

يقف مشروع أدب الأطفال وتشجيع المطالعة وسط جملةٍ من المشاكل وسلسلةٍ موازية من المطالب التي لا يعتقد الحاضرون أنفسهم أنّها ستُحَلّ في وقتٍ قريب، لكن لا بدّ من خوض التجربة واستكمالها حتى النهاية. فالمشكلة ليست في استكمال المشروع أو عدمه، لأنّه مستمرّ، ولو بمبادرات من يطالبون بتطوير هذا الأدب. ولكن المشكلة تكمن في المقولة التي ما عادت «دارجة» في قاموس البعض: «بلد يقرأ، بلد يعيش، ضوّي حياتك بالقراءة» والتي بات حالها كحال الكهرباء، إمّا «عالتقنين» أو «مقطوعة»، والسبب واضح: «لا مطالعة فعليّة، ولا حتّى أدب أطفال، ولا من يهتم».
لكن، لن تكون الصعوبة كامنة هنا فقط، في ضعف دعم المؤسّسات الرسميّة لأدب الأطفال والمطالعة، إذ ثمّة أطراف آخرون، هم في صلب هذا الأدب. إذاً، اللوم ليس فقط للجهات الرسميّة التي من المفترض أن تكون المطالعة والأدب أحد اهتماماتها، فغالبيّة الجهات الأدبيّة تتحمّل جزءاً من هذه المسؤوليّة، التي تتعدّى مجرّد الكتابة والطباعة والرسم، وملاءمة المناهج التربويّة، التقليديّة منها أو الحديثة، لتُترجم سوءاً في الحسّ الناقد لدى «القارئ الصغير». بتعبيرٍ أوضح، هو سوء ناتج من أسباب عدّة، قد تكون منها العلاقة غير الممنهجة بين كاتبٍ ورسّام يعانيان في بعض الأحيان محدوديّة في التعبير أو بين دور النشر والمناهج التربويّة الوعظيّة البعيدة عمّا تصطلح على تسميته بـ«التابوات». وهذه العلاقة غير المستقرّة بين ما يُفترض أن يكون «تحالفاً رباعياً»، ربّما كانت الدافع أمام الجمعيّات المحليّة والعالميّة وحاضني أدب الأطفال لتبنّي هذا المشروع، وطرح «وثيقة الرؤية الوطنيّة»، في ما يخصّ المشاكل التي تعترض آليّة التطوير، والمطالب الواجب توافرها لمعالجة المشكلة.

أدب «signé»

وفي هذا الإطار، لا بدّ من العودة إلى التحالف الرباعي، الذي يحمل كلّ طرفٍ فيه ما يكفيه من المعضلات، تؤثّر في التركيبة النهائية. ففي التأليف، ثمّة ما يعوق المسير، مع بعض الاتجاهات في الكتابة التي تراعي التقليد السائد في المناهج التربويّة و«محرّماتها»، وهو ما يدفع كاتب كسماح إدريس إلى التخوّف من التجربة التي بدأها مع الأطفال. فهو يعرف تماماً أنّ البعض قد يرفض فكرة الحديث «عن الجنس والحرب للأطفال»، ولكنّه، رغم ذلك، يؤمن بنظرةٍ مختلفة يراعي بها الواقع، بعيداً من صخب التعليقات. وفي هذا الإطار، يلفت إدريس إلى أنّه اختار «الحرب» في قصصه «كالنصاب والملجأ» لسببٍ واحدٍ، هو أنّه «لا يمكننا أن نقفز فوق أكبر مرحلة من حياتنا، وهي الحرب الأهلية في لبنان». من جهة ثانية، يخوض إدريس تجربة الفتيان مع موضوع «الجنس» للحقيقة التي لا مفرّ منها «من أنّ الفتيان في هذا العمر تجتاحهم مشاعر جنسية تجاه الفتيات، فلا يجب أن يكون موضوع الجنس تابو هنا أيضاً».
ليس إدريس وحده من عاش التجربة الجديدة، فثمّة كتّاب آخرون، ومنهم الكاتبة رانيا الزغير التي كتبت الحياة اليوميّة السياسيّة لأطفالها في قالبٍ بسيطٍ ملائم، فخرقت الحدود ما بين الصغار والكبار، متّجهة نحو مزيدٍ من الانخراط في قضايا المجتمع عبر الدخول في عالمٍ يهمّ الطرفين، الصغار والكبار.
لكن هذا الخوض في الجديد لا يزال ضعيفاً بالإجمال في لبنان، رغم التطوّر الحاصل في ميدان الأطفال، في حين أن الاتجاه التقليدي في الكتابة التربويّة ما زال يحظى بالمساحة الأكبر من التأليف. وفي التجربة أيضاً، قليلة هي القصص التي يظهر فيها الجو اللبنانيّ من خلال المكان والرمز والحدث، فيبقى التساؤل حاضراً: «ما هي الهويّة الثقافية في قصصنا؟ لبنانيّة، عربيّة أم عامّة؟».
كلّ ذلك، لن يكون كافياً لإشباع حاجات الأطفال، إذ يشهد بعض هذا الأدب غياباً للدراسات الوصفيّة والتحليليّة المتعلّقة من جهة بميول الأطفال القرائيّة واختياراتهم، وغياب النقد الأدبيّ المتعلّق بمستوى التأليف ونوعيّته من جهةٍ أخرى. وهذا ما يدفع الغالبيّة من الأهل والأطفال إلى التوجّه نحو الأعمال المترجمة التي تشهد طفرة في المجتمع اللبناني، مقارنة بالإنتاج المحلّي، إضافة إلى مراعاة «الموضة» في القراءة، فترى هذه الغالبية في الأعمال الأجنبيّة ما يرضي رغباتها القرائيّة... والبرستيج.
ليس بعيداً عن التأليف، تختبر الرسّامة لينا مرهج الموقف نفسه الذي عاشه المؤلّفون، فتعدّد الصعوبات التي واجهتها في بداية مسيرةٍ باتت جزءاً من يومياتها، منها تاريخ الفنّ العربي ـــــ اللبنانيّ غير المؤرّخ، والعجز في حجم المعرفة التي تملكها. وتشير مرهج إلى أنّها درست التصميم الغرافيكي، لأنّها لم تجد في الجامعة اختصاص «الرسم التوضيحي»، فكان أقصى ما تملكه من معلوماتٍ عن الرسام التوضيحي «هو إنسان يتقن الرسم واستخدام الكومبيوتر ويرسم للسوق». وأمام هذا الواقع، لم تجد سوى اللجوء إلى كتب الرسم الفرنسية والإنكليزية، ووُلد معها تحدّي الرسم للسوق المحلي من دون معرفة اهتمامات هذا السوق وأبحاثه وإنجازاته.
وتلوم مرهج «الناشر» الذي لم يختبر يوماً أهمّية العلاقة بين الكاتب والرسّام، «فكانت اجتماعاته مع كلّ منّا على حدة، ولم تكن لديّ القدرة على مناقشة الكاتب في أفكاره، وهو أيضاً، فكان عليّ أن أسلم «الستوري بورد»، وأن أنتظر اجتماع الكاتب بالناشر قبل أن أعود وأجتمع مجدّداً بالناشر، ومن ثم أجري التعديل على الصور».
وتواجه مرهج مشكلة عدم معرفة كاملة بالحقوق، فغالبيّة دور النشر لم تكن تعتمد عقد العمل، وإن لجأت إليه، فـ«بالطريقة التي تلائم تطلّعات الدار»، إضافة إلى جنوح هذه الدور نحو ما هو أجنبي على اعتبار أنّه «signé». وهو الأمر الذي دفع مرهج إلى التأقلم في علاقة غير مستقرّة... والزغير إلى إنشاء دارها الخاص «الخيّاط الصغير» لتلبية حاجات القارئ الصغير ورغباته.

حرق المراحل

لا تقتصر مصاعب أدب الأطفال على الكتّاب والرسّامين، بل تتعدّاها إلى دور النشر. وفي هذا الصدد، تؤكّد إنعام غملوش من دار الحدائق أنّ ثلاث مشاكل رئيسية من المفترض مواجهتها وحلّها لتحسين واقع النشر. فإلى جانب موضوع الخبرة الضرورية في هذا المجال وغير المتوافرة عند عدد كبير من الكتاب والرسامين والمخرجين، يبقى موضوع المنافسة هاماً وأساسياً «وهذا ما يجرنا للحديث عن الذين هم حاضرون اليوم في ساحة النشر للأطفال. برأيي هناك من يتعدى على المهنة، تماماً ككل المهن. وهناك من يُكرَّسُ قبل أوانه فلا ينمو نمواً طبيعياً، لأنه يحرق مراحل الخبرة والتجربة. وهناك من بات مُكرّساً بالفعل، بسبب الجهود الحقيقية والواقعية التي يبذلها منذ سنوات». كذلك تتحدّث غملوش عن المشاكل الاقتصادية المتعلقة بتصنيع الكتب في ظل ارتفاع سعر الورق، وسعر التجليد، «فضلاً عن غياب الكفاءة في هذا العالم وكلفتها العالية جداً، إن وجدت، التي تنعكس على سعر الكتاب». وتمتد المصاعب لتصل إلى التنسيق والإخراج في كتب الأطفال، ففي الجزء الأوّل، لا مجال للحديث... مع الغياب المطلّق لما يسمّى «المنسّق»، أو أنّه في أحيانٍ كثيرة يجري التغاضي عنه وعن متخصّصي التصميم الغرافيكي نتيجة لعدم الوعي الكافي لدى الناشرين لأهميّة هذا الدور أو رغبتهم في تقليص النفقات.
وفي الطباعة، ربّما استحقّ القول إنّ لبنان يواجه صعوباتٍ عدة قد تنحّيه عن دوره مركزاً للطباعة في العالم العربي، ويعود ذلك إلى منافسة الأسواق العربيّة لبيروت في هذا المجال، وغلاء اليد العاملة ومنافسة كتب المطالعة أو المصوّرة الصادرة باللغات الأخرى.
انتهت أزمة «التحالف الرباعي»، ولكن ثمّة مشاكل لم تنته بعد، تتعلّق بوسطاء أدب الأطفال، ومنها التوزيع الذي يعاني الفوضى والعفويّة والمكتبات التجاريّة التي تشكو عدم وجود سياسة ترويجيّة للكتب، إضافة إلى غلاء هذه الكتب، مقارنة بالوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الناس. أمّا بالنسبة إلى المكتبات العامة، فثمّة خروق إيجابيّة تعمد من خلالها المكتبات الموجودة إلى تكثيف جهودها من أجل تشجيع المطالعة والتنويع في الكتب وآليات إعارتها، إضافة إلى المكتبات المتنقّلة. وما عدا ذلك، تعاني بعض المكتبات سوء التنسيق بينها وبين المدارس، وخصوصاً تلك التي لا تتوافر فيها مكتبات مدرسيّة جيّدة، يضاف إليها أنّ غالبيّة قاصديها من الشباب يكتفون بالدراسة فيها، من دون المطالعة.
وفي الطرف الآخر للتحالف الرباعي والوسطاء، تواجه المطالعة مصاعب كثيرة، فإذا ما أخذنا في الاعتبار أحد الإحصاءات الوطنيّة في الموضوع، نجد أنّ معدّل الإعارة والمطالعة في لبنان لا يتعدّى «نصف كتاب شهرياً»، فيما تنحصر المطالعة بين 15 و19 سنة في العالم العربي، والعلاقة المرتبكة مع المطالعة باللغة العربيّة، إذ يجنح المراهقون إلى الكتب الأجنبيّة. ولا يقف الإعلام بعيداً عن هذه المسؤوليّة، إذ تعطي الوسائل الإعلاميّة الأولويّة للشأن السياسي العام والقضايا التي تهمّ البالغين، فيما تندر الفترات الخاصة بالأطفال.
وأمام هذا الواقع، لا يجد المعنيون سوى بضعة توصياتٍ قد يتمكّنون من خلالها من تركيز التوجّهات في ما يخصّ أدب الأطفال والمطالعة، وقد يكون أحد بنودها رصد ميزانيّة عامّة للمطالعة في الدولة وإصدار تشريعات تدعم الكتاب والقراءة وتفعيل اللجنة الوطنيّة لأدب الأطفال، وإيجاد شبكة تواصل ما بين عناصر «التحالف الرباعي» والعمل على إنشاء موقع إلكتروني يتضمّن كل ما له علاقة بأدب الأطفال، فضلاً عن تفعيل دور النقابات المتخصّصة بهذا الأدب والاهتمام بأدب المراهقين ونشر أدب يتلاءم مع تطلّعاتهم...
يذكر أنّ مشروع تطوير أدب الأطفال وتشجيع المطالعة ترعاه جمعيّة الهدى للرعاية الاجتماعيّة، بالتعاون مع مؤسسة أنّا ليند الأورومتوسّطية.


مجرد إشارة
... ومادة مشوّقة في الجامعات
تخطّى العمل في مجال أدب الأطفال الموهبة والهواية، فتحوّل في السنوات الأخيرة إلى مادّة تدرّس في الجامعات، لا سيّما في الاختصاصات المرتبطة بالأطفال كالتربية. وجامعة هايكازيان هي من أكثر الجامعات التي تولي أهمّية لهذه المادة، فتفرض على طلابها عند الانتهاء من دراستها أنّ ينتجوا قصّة للأطفال، بما يضمّ ذاك الإنتاج من تأليف وإخراج ورسم. تفخر المسؤولة عن قسم التربية في الجامعة الدكتورة بسمة فاعور بالقصص التي تزيّن مكتبها. تخرج من الخزانة عدداً من الكتب التي أنتجها طلّابها، إضافة إلى أخرى متخصّصة بالأطفال صُممت بطريقة متطوّرة وقريبة من الطفل لتزيد رغبته بالقراءة.
ورغم أن المادة اختيارية لا إلزامية، إلّا أنّ عدد طلابها كبير «لأنها بحدّ ذاتها مادة مشوّقة»، كما تشير فاعور، معدّدة أسباب جذب المادة للطلاب، فهي في دافع أوّل تعد «القراءة أساس كل الاختصاصات، كما أنّه يتوجّب من الجهة الأخرى أن يكون الطالب على دراية بالكتب التي يجب أن يختارها».
تستفيض فاعور بالشرح عن الطريقة السليمة لتعريف الأولاد بالكتاب، وهو ما تصرّ على نقله إلى طلّاب المادة، إذ إنّه «من الخطأ اعتبار أن الطفل يتعرّف إلى الكتاب حين يدخل إلى المدرسة، فهناك كتب متخصّصة للأطفال الحديثي الولادة»، وتستعين، في هذا الصدد، بعدد من الكتب الموجودة في مكتبها لتأكيد مقولتها.
ومن الأخطاء الشائعة في عالم أدب الأطفال، ولا سيّما في العالم العربي، أنّ ثمّة عبرة معينة يجب أن يستخلصها الطفل من وراء كلّ قصة وكلّ كتاب «وهذا ما على الطلاب تفاديه، لأنه خاطئ ويبعد الطفل عن الكتاب».
أمّا في تفاصيل المادة، فتؤكد فاعور أنّ «على كلّ طالب أن يقرأ 25 كتاباً للأطفال، وأن يناقش أثناء الفصل مجلّات للأطفال ويقرّر إن كانت فعلاً تناسب الأطفال أم لا».
ومن النشاطات التي يقوم بها طلّاب المادّة في الجامعة، هي الزيارات لعدد من المدارس وقراءة عدد من القصص على الأطفال بهدف تعريفهم بأهمية الكتاب والقراءة للمتعة. ولكن رغم التخصّص يبقى هناك، في رأي فاعور، دور آخر يتوجّب على المدارس القيام به، وهو إدخال أدب الأطفال في المناهج التربوية، وتدريب أشخاص لهذا الهدف.