صور ـ آمال خليللكل عدوان على الجنوب حكاياته وأبطاله ومستثمروه، لكن النهايات واحدة. المعتدى عليهم صامدون مقاومون منتصرون نصراً كالذي سجّل عند السادسة من مساء اليوم قبل 12 عاماً في تفاهم نيسان
مستشفى نجم
لنقل إن المستثمرين الجدد لإدارة مستشفى نجم في صور لم يقصدوا باستبدال اسمه بالمستشفى اللبناني الإيطالي طوال مدة الاستثمار للسنوات التسع المقبلة، تغيير تاريخ ينبض طوال 14 عاماً، بدءاً من عام 1994، من هنا حيث يقع عند تقاطع الطريقين الرئيسيين اللذين يصلان المنطقة المحتلة حينها بالوطن عند مدخل صور الجنوبي. فالتاريخ بين أروقة المستشفى الذي تعرف المنطقة باسمه، يسجّل ما لا يمكن محوه من ذاكرة طاقم المستشفى والمواطنين الصامدين والمقاومين في القرى المحتلة أو قرى التماس المرضى أو المصابين بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وأكبرها عدوان الستة عشر يوماً في نيسان عام 1996 الذي انتهى في مثل هذا اليوم.
الاسم أو الشكل الجديد لن يغسل رائحة عدوان نيسان 1996 من جلباب المستشفى الفتي آنذاك، لكنه كان المحور بسبب موقعه، وخصوصاً أنه كان النقطة الأخيرة التي يمكن الوصول إليها باتجاه معبر الحمراء الفاصل عن المنطقة المحتلة. ومن يذكر فإن سطحه كان نقطة تمركز الإعلاميين والبث المباشر، وباحته نقطة الاستعداد لسيارت الإسعاف، ما جعله تحت الخطر والتهديد الإسرائيلي المباشر، بحسب جواد نجم رئيسه حينها.
هنا لا يسكت أنين ضحايا مجزرتي المنصوري وقانا الأولى والثانية، ولا يبدد دم الشهداء، وخصوصاً الأطفال الذين كانوا بسبب الازدحام «يرقدون في زاوية كالعصافير» يقول نجم؛ ليس لأن التجربة لا تنسى، بل لأن الشهداء الأحياء يفدون باستمرار إلى حيث ولدوا مجدداً. صفية السيد (67 عاماً) التي استردت روحها هنا في أحد الأروقة، حيث قامت من بين الأشلاء المتفحمة بعد أن جمع المسعفون جسدها المشوّه إلى الأجساد الممزقة في مجزرة قانا الأولى. لكن الفحص المستمر الذي كان يجريه أطباء المستشفى نقلها مباشرة إلى غرفة العمليات، حيث مكثت أسابيع إلى أن تعافت. أما حميدة ديب التي تركت هنا يدها اليمنى وساقها اليسرى وعائلتي شقيقيها حسن وحسين واستردت سنواتها العشرين، فلا تزال تمر في المكان حيث كتبت لها حياة من حزن. أما المستشفى بعد عدوان نيسان فقد شحذ الهمم على طريقته لعدوان جديد يداوي جرحاه ويحفظ شهداءه في برادات كافية حتى يدفنوا في أرضهم.
جميل الحزين
في مقبرة شهداء مجزرة قانا الأولى، مهما ازدحم الزوار المحليون والأمميون، فإنهم قبل نهاية النهار راحلون مع كاميراتهم وأكاليلهم المتزاحمة مع اقتراب الذكرى. حتى إن ذويهم راحلون عندما يجف الدمع ويتعب الندب. وحده جميل سلامي (41 عاماً) المسعف السابق في الدفاع المدني، الناجي من المجزرة، لا يفارق جيران مخيم النزوح في مقر الوحدة الفيدجية التي عمل معها، حيث تشارك مع 935 لبنانياً و1200 جندي أممي الخوف والصمود طوال ثمانية أيام. ارتضى جميل أن يكون حارساً للموت على مدار السنة. ليس له منذ ذلك الحين مهنة أخرى سوى الاهتمام بالقبور ومرافقة الزائرين لتعريفهم على مكان المجزرة، حيث يملك ألبوم صور قبل المجزرة وبعدها، يحفظ وجه كل شهيد ويربطه بمكانه الحالي منذ 12 عاماً في القبور الجماعية.
العمر بحساب جميل 12 عاماً، أتمها في ذكرى المجزرة. صار له أسرة صغيرة، لكنه لم يمل من الموت ومن عبق الشهداء، بالرغم من أنه ليس موظفاً لتنفيذ المهمة من قبل البلدية أو اللجنة الوطنية لتخليد شهداء قانا.
جميل الذي لم ير سوى قبح الحياة خلال عمله مسعفاً منذ عام 1979 في مناطق الاعتداءات الإسرائيلية في الجنوب والبقاع، لا يعنيه نيسان سوى زحمة زائدة وضوضاء دخيلة يزرعها الزائرون في الذكرى.
البيت الزهر
لا ينبت الزهر في بيت أحمد حيدر الزهري مذ آثر استبداله بسكن دائم على بعد أمتار قليلة، في مقبرة شهداء مجزرة قانا الأولى. ولا من يزرع الزهر على شرفة البيت الكبير المهجور مذ استشهد أحمد وزوجته نهلة هيدوس وابنته فوزية وابنتاها اللواتي لجأن من بيتهن في القليلة إلى حمى الوالد الذي هرب بهن وبولديه مريم وعلي اللذين نجوَا وحدهما من المجزرة. حزين البيت على أهله وعاتب لأنهم استبدلوه بالخيم، فاحترقوا هم والخيم وبقي هو وحيداً يرقب احتراقهم، باستثناء المرات القليلة التي كانت ابنة أحمد زهرة تتفقده وتمضي إلى غربتها مجدداً مع علي ومريم في أبيدجان. وحدها سيارة المرسيديس الكحلية العائدة للشهيد أحمد مركونة أمام البيت، كأنها تنتظر ساعة يخرج من جديد ولا تزال تنتظر لأن بيته لم يعد هنا.
هل تنتهي الحكايا الجنوبية وراويها الحزن، أم تسكت حنجرة العدوان الذي عسى ألا يكون له رابع بعد اعتداءات 1993 و1996 و2006؟ الجواب الجنوبي المطمئن الآتي من نيسان يقول إن العدوان الإسرائيلي لا ينتهي من تلقاء ذاته، بل بيوم كمثل هذا اليوم تنتصر فيه المقاومة وتحكي حكايتها.