جان عزيزلمناسبة «سبت النور» الأرثوذكسي، يتذكر متنيون يوم قرّر ميشال المر معاقبة حليف سابق له، هو نائب المتن السابق ورئيس بلدية سن الفيل السابق أيضاً، حبيب حكيم. كان ذلك مطلع عهد إميل لحود، مع ما تعنيه تلك الحقبة من جبروت لدولة أبو الياس، لم يُعطَ لأي دولة مماثلة في أي عهد لبناني معاصر. فجأة، ومن دون إنذار، سحب نائب رئيس الحكومة الحصيّة يومها، ملف محرقة برج حمود. وحوّله بسحر «إعادة التدوير» إلى محرقة للنائب الحليف السابق. ذهب حبيب حكيم إلى الاعتقال الموقّت بلا محاكمة. ووقف فؤاد السنيورة أكثر من مرة أمام المدعي العام، حتى اضطر مرة إلى الاستشهاد بمحمود درويش: «وطني ليس حقيبة وأنا لستُ مسافراً».
ولم يرقّ قلب زعيم المتن وسائر أنحاء اللجان الوزارية والديوانيات النيابية. لا بل أطلّ أبو الياس يومها من على شاشة صديقة دوماً، ليقولها بالفم الملآن: «من معي أشدّ معه إلى الآخر، ومن هو ضدي أكسر عليه حتى الآخر...».
يتذكر متنيون تلك الوقائع، فيما هم يتساءلون عن مستقبل العلاقة بين بتغرين والرابية، وعن نهج التعاطي بينهما، بعدما خرج ميشال المر من تكتل التغيير والإصلاح، وبعد الكلام الملتبس والحامل لأكثر من تأويل وتفسير، الذي كرّره المر في أكثر من لقاء علني وإعلامي أخيراً.
لكن القريبين من الرابية يسارعون إلى التأكيد أن القياس بين الظرفين وأطرافهما، غير ممكن. فميشال عون لم يكن يوماً مع ميشال المر، ليقول الأخير إنه «شدّ معه» يوماً. والجنرال لم يكن قط ضد «أبو الياس»، ليكسر المر عليه، أو يحاول. فالحقيقة المجردة، أن كل العلاقة التاريخية بين الرجلين، مقتصرة على محطتين من العون الإنساني والأخلاقي، في أكثر ظرفين من المرارة الشخصية والسياسية.
المحطة الأولى، التي باتت معروفة، كانت صبيحة 15 كانون الثاني 1986. فجر ذلك النهار أطبقت قوات سمير جعجع طوقها على «المبنى الأبيض»: مقر الياس حبيقة في الكرنتينا. سقط «الاتفاق الثلاثي» الذي كان أبو الياس من أبرز عرّابيه، وصار السؤال مقلقاً عن احتمال سقوط أركانه. كان الياس المر الشاب مع حبيقة في مكتبه المحاصر. بعد تأكّد الموازين العسكرية ونتائجها، رن هاتف الجنرال في مكتبه في اليرزة. كان حبيقة على طرف الخط متكلماً. في تلك اللحظة اكتشف ميشال عون، وسط انقطاع الخطوط والاتصالات الهاتفية، أن مديرية المخابرات المرتبطة ببعبدا، كانت على اتصال سلكي مباشر بالكرنتينا، عبر خط «داخلي». استعمله حبيقة ليطلب التسليم والخروج. بعدها وصل أبو الياس إلى اليرزة. كان مسقطاً في يده. يتمالك نفسه من الانهيار، إزاء فكرة كون وحيده في قلب الخطر. لا مكان آخر يلجأ إليه. أبواب أمين الجميل موصدة في وجهه. حلفاؤه السوريون عاجزون عن دعمه. لم يبق إلا الجنرال. «ما المطلوب لتخرجه حيّاً؟» سأل الوالد المذعور. أجابه قائد الجيش: «إذا كان الأمر ممكناً، فسأفعل المستحيل لتحقيقه، إيماناً مني بأخلاقية السلاح وقانون الحرب. وإذا لم يكن كذلك، فما من شيء على الأرض يمكن أن يغيّر سعيي».
اتصل عون بسمير جعجع. غاب رئيس أركان «القوات» عن السمع. فأمر الجنرال بتحريك بعض وحدات الجيش. فهم الحكيم الرسالة واتصل باليرزة. بعد قليل كان كريم بقرادوني وميشال المر مجتمعين في اليرزة. اتفقا على آلية التسليم والخروج. وعاد الياس المر حيّاً.
المحطة الثانية كانت عشية انتخابات 2005. ذهب سيبوه هوفنانيان للقاء عون في باريس. قال له: الأرمن والطاشناق معك، لأن الحريري يريد ذبحنا كما فعل سنة 2000. لكن هل يمكن ترك مقعد شاغر لحليفنا ميشال المر؟ فالجميل من جهته يريد ذبحه سياسياً وانتخابياً أيضاً. رفض الجنرال.
بعد عودته إلى لبنان، فوجئ عون بمن يزوره مطوّلاً، لمحاولة إقناعه بإبعاد المر الأب، وأخذ المر الابن على لائحته. رفض أيضاً. بعدها ارتفعت سخونة المتن الانتخابية. شنّ الجميل هجومه الأعنف على الجنرال، متّهماً إيّاه بأخذ رمز سوريا الأول، ميشال المر، على لائحته غير المكتملة، من ضمن اتفاق تحت الطاولة. أدرك قريبون من المر المخطط. يريد الجميل تصفيته نهائياً، ولو أدى ذلك إلى فوز عون بمقعد أو أكثر. بعدها يراهن زعيم الكتائب على «عراقة» بيته السياسي وحداثة الآخرين، لينتهي زعيماً أوحد على المتن بعد أربعة أعوام. عاد أبو الياس إلى لحظة الحصار نفسها. كل الأبواب موصدة أمامه. لم يعد لديه إلا الجنرال. وقف في برج حمود معتذراً من السياديين، وعاد حيّاً سياسياً.
ماذا سيفعل ميشال المر في المرحلة المقبلة؟ السؤال وقف على ظروف قول «أبو الياس»: إذا عاد الجنرال عون مرشحاً رئاسياً فأنا معه.
كل شيء وارد، حتى المحطة الثالثة من العون المر، وخصوصاً إذا كانت أخلاقية السلاح والسياسة من ثوابت... البعض.