فداء عيتانيعاد صاحب شعار «يا بيروت بدنا التّار من لحّود ومن بشّار»، النائب وليد جنبلاط، لينعطف نحو مسار أكثر إيجابية. أثار مجدداً دهشة المتابعين السياسيين. ولكن لم يقم بذلك هذه المرة من دون تمهيد طويل، ومن دون دراسة متأنّية، ومن دون رسائل في أكثر من اتجاه، ولو كان المرسل واحداً، وهو جنبلاط نفسه. أطراف عدة وصلتها الرسائل، وعبر قنوات عدة، منها المباشر، ومنها المستتر. وتعمّد جنبلاط رسم صورة وسطيّة لنفسه، لا عبر مواقفه المتناقلة في إعلام الموالاة فحسب، بل أيضاً عبر إعلام المعارضة من جريدة «السفير» إلى «الأخبار»، وكان ولا يزال جنبلاط ينتظر حصاد ما زرعه من مواقف غير معلنة عبر خط بيروت ــــ دمشق.
في سوريا، ثمة من وصلته الرسائل الجنبلاطية. وكعادة النظام السوري، فإنّ القيّمين عليه يقرأون الصفحة الأعلى من الملف، وحين يتصفّحون ملف جنبلاط يجدون أوّلاً رسائله الإيجابية. سبق لسوريا أن رفضت في وقت سابق رسائل تودّد من جنبلاط. حينها كانت دمشق تحت وطأة الهجوم الأميركي المنفَّذ من جانب قوى 14 آذار المرصوصة الصفوف، التي كانت تمنّي النفس بقرب انتصار ساحق يغيّر النظام في سوريا إلى غير رجعة، كما كانت دمشق تحت سيف عقوبات مكلفة، وقاب قوسين أو أدنى من حرب يهدّدها بها الأميركيون والإسرائيليون. لكنّ من يجلس في السلطة اليوم في دمشق يعلم أنه، وإن اضطر إلى رفع الشوادر عن مدافعه تحسّباً لهجوم إسرائيلي، إلا أنه في حالة من الطمأنينة توفّرها له مجموعة من الظروف والمعطيات الواقعية في العالم، من واشنطن إلى أوروبا، وصولاً إلى المنطقة والوضع الإسرائيلي الداخلي الصعب. ويدرك من في السلطة في دمشق أن المعطى الإسرائيلي المسالم ليس مناورة فقط، بل يحمل جدّية داخله. ويدرك أيضاً حكام سوريا أن المعارضة في لبنان «مرتاحة»، بعد أن كانت منذ عامين في حالة دفاع يومية، وحتى عن الوجود، فيما هي اليوم تخرق المحرّمات في نقاشاتها السياسية. وإنّ ما قام به وئام وهاب تحديداً في الوسط الدرزي، ليس أقلّ من تأسيس زعامة بديلة، يمكن أن تظهر ثمارها خلال أعوام قليلة إذا استمر الواقع على ما هو عليه، ولم يجرِ تعطيل مشروع وهّاب من جانب حلفائه، بعد أن تمكّن من التصدّي لأخصامه.
وعلى قاعدة الإدراك لكل المعطيات السالفة وغيرها، استقبلت دمشق رسائل جنبلاط التي ترشح بقلق انتخابي يشمل تقريباً أية صيغة يستقر عليها الرأي في لبنان للانتخابات المقبلة، كما ترشح بخوف مِن تحوُّل عدد من النواب إلى قوة وسطيّة تضمّ ائتلافاً من المعارضة والموالاة. ورأت سوريا أن أكثر الرسائل الجنبلاطية جدّية هي تلك التي وصلتها عبر الرئيس بري، الذي احتضن المراسلة شرط بقائه خارج دائرة الضوء، وبقاء هذه الاتصالات في المستوى السرّي.
إلا أن دمشق أبدت، ومنذ البداية، رفضها استقبال جنبلاط على أراضيها، مع عدم اعتراضها إذا أراد حزب الله التلاقي مع جنبلاط ورعايته انتخابياً والاستفادة من التفاتته السياسية، وهو أمر متروك للحزب نفسه، الذي يعلم كيف يتعالى على الإساءات ويعمل لمصلحة عامة أوسع من الفكر الثأري.
دمشق اليوم التي تعدّ نفسها، وبغضّ النظر عن مدى صحة التقويم الذاتي، أكثر قوة بما لا يقاس من دمشق عام 2005، ترى أنه قد آن أوان المسامحة، إلا أنها في كل الأحوال تشتري اليوم بالقطع النقدية الصغيرة ما كان سابقاً بأسعار فلكية.