بدأت ظاهرة العباءة السوداء، أو ما يعرف بالـ«تشادور» تتوسّع في الفروع الأولى في الجامعة اللبنانية، مع ازدياد عدد الفتيات الملتزمات بهذا اللباس. ونادراً ما تحظى العباءة بموافقة الأهل لكن الطالبات يستخدمن كل الوسائل الممكنة لإقناعهم.كما تواجه الفتيات صعوبات مع المجتمع وسوق العمل وعلاقتهن الاجتماعية، إلّا أنّ الأولوية تبقى واضحة لديهن، «العباءة أولاً»

هاني نعيم

قد يبدو ارتداء العباءة مجرّد التزام ديني، لكنّ للفتيات اللواتي يرتدينه رأياً آخر، فهن يثبتن أن العباءة نمط حياة بحدّ ذاته، ما ينعكس على علاقتهن بالمجتمع والشباب، والدين.
تتحدّث زينب، الطالبة في كلية الحقوق والعلوم السياسية، عن طموحها إلى الكمال، وهو ما دفعها إلى ارتداء العباءة السوداء منذ شهر واحد فقط «الله لم يفرض علينا العباءة، بل فرض الحجاب، وأكمل وجه للحجاب هو العباءة». توافق سماح على ما تقوله زميلتها في الكلية، مؤكدة أنها لبست العباءة منذ ستة أشهر «أسوة بأهل البيت».
أمّا في كلية الإعلام والتوثيق، فازداد عدد الفتيات لابسات «التشادور» هذه السنة. وتشرح سميحة علاقتها بالحجاب، قائلة: «ارتديت الملابس العادية مع الحجاب من الثامنة إلى الخامسة عشرة، ومن الخامسة عشرة إلى التاسعة عشرة اعتمدتُ اللباس الشرعي، وهو عبارة عن معطف طويل واسع لا يظهر مفاتن الجسد، ثم العباءة السوداء». وتقول: «كان لديّ الحماسة لارتداء الحجاب منذ صغري، وبما أنني أتمسّك بديني، فالحجاب من جوهر الدين».
إلا أن ارتداء العباءة لا يحظى دائماً بموافقة الأهل، إذ تتحدث أماني، الطالبة في كلية الإعلام، عن معارضة أهلها الشديدة لارتداء العباءة. لكن أماني لجأت منذ أن كانت في الخامسة عشرة إلى كل الوسائل الممكنة لإقناع أهلها برؤيتها، بدءاً من النقاش الطويل والواسع، وصولاً إلى الإضراب عن الطعام، «وعندما رأوا إصراري واقتناعي بالفكرة قبلوا». لا تميّز أماني بين اللباس الشرعي والعباءة، وتقول: «لا فرق بين الاثنين، فالعباءة ليست فرضاً دينيّاً، بل جزء من الاقتناعات الذاتيّة».
تُجمع معظم الفتيات على أنّ ارتداء العباءة له تبعات عدّة تحكم تصرفاتهن في الجامعة والبيت والمجتمع. وترى زينب أنّ مقياس التفاضل بين الناس ليس الشكل والمظهر، بل هو الأخلاق وفرض الاحترام على الآخرين، والعباءة في هذا الصدد تزيد من احترام الشباب للصبايا، «هناك وهرة في التعاطي مع اللواتي يرتدين العباءة». وفيما تضع سماح العباءة في خانة «المزيد من الحشمة للفتاة»، تنتقد أماني اللواتي يرتدين الحجاب ويظهرن مفاتن أجسادهن، إذ إنّهن لا يفهمن جوهر الحجاب وقيمته، «وعلى من يريد لبس الحجاب، أن يحترمه»، تقول بحزم.
اتّفقت الفتيات إذاً على أنّ العباءة تزيد المسؤولية لناحية السلوك الاجتماعي، «لأنّ المجتمع ينظر نظرة مثاليّة لمن تلبس العباءة، كما أنّه يعمِّم كل خطأ يرتكبه الفرد على المجموعة التي ينتمي إليها». إلّا أنّ هذه المسؤوليّة لا يجب أن تنعكس انعزالاً اجتماعياً، «بل نحن نقصد المقاهي والمطاعم شرط أن تتوافر فيها الضوابط الأخلاقية الشرعية»، تقول أماني.
ورغم أن ارتداء العباءة يغيّر نظرة المجتمع إلى الفتاة، فالفتيات يتعاطين مع محيطهنّ بطريقة طبيعية كما يؤكدن. فلم يتغيّر اندماج زينب مع الناس والمجتمع، «كل ما تغيّر هو علاقتي مع الله، كنت أصلّي سابقاً، ولكن ليس كما يجب، إذ إني لم أكن أتقيّد بوقت الصلاة، أما الآن فكل التفاصيل مهمة بالنسبة إليّ». أما سماح فتخالف زينب في ما تقوله، فالعلاقة مع الله لم تتغيّر بعد لبس العباءة كما تقول، «بل الذي تغيّر هو العلاقة مع المجتمع، حيث إنّ العباءة تفرض الاحترام على الآخرين».
لكن أماني واجهت مشكلة لدى انتقالها من قريتها في النبطية إلى بيروت، إذ «كان الجو جديداً عليّ، فالزملاء من الطوائف الأخرى أخذوا موقفاً مسبقاً (وهذا ما تفرضه طبيعة العباءة)، وكان التواصل رسمياً جدّاً»، ولكنّها مع الوقت كسرت الحواجز، «وأصبح لديّ صداقات مع آخرين من طوائف مختلفة».
أمّا سميحة وشقيقتها فكانتا الوحيدتين في المدرسة اللتين ترتديان الحجاب، «الحجاب هو جزء من إبراز اختلافي عن الأخريات»، تقول بثقة، فيما كان رفاقها في الصفّ ينظرون إلى الحجاب على أنّه علامة من علامات التخلّف الاجتماعي. غير أنّ سميحة أدّت رسالتها على أكمل وجه، كما تقول، «فمع الوقت تفاعلت أكثر مع محيطي واستطعت تغيير نظرتهم للحجاب كثيراً. كانت لديّ رسالة، وهي توضيح فكرة الحجاب للآخرين».
وفي الجامعة، رافقت سميحة صعوبات مواجهة المجتمع، فقالت لها يوماً إحدى رفيقاتها: «لم أكن أرغب في صداقتك، فقد كان شكلك غريباً، وصراحة اعتقدت أنّ عليّ أن أتحدّث معك بالفصحى»، تضحك سميحة حين تتذكر ما قالته لها رفيقتها، «لكنني شرحت لها معنى العباءة، وعادت الأمور إلى مجاريها».
بعيداً عن المجتمع، كيف تختار الفتيات اختصاصاتهنّ ومجالات عملهنّ؟ «العباءة لن تؤثّر على عملي»، تقول زينب بثقة، وهي تفكّر بدراسة هندسة الديكور في السنة المقبلة، لانّها تحب هذا الاختصاص، «أعرف الكثير من زميلاتي اللواتي يلبسن العباءة، ويبدعن في هذا المجال، والعباءة ليست عائقاً أمامنا».
من جهتها، تبدو سماح أكثر إدراكاً للصعوبات التي ستواجهها، «سأقدم للوظيفة في مؤسسات محددة تستقبلني مثل إذاعة النور وتلفزيونات المنار والكوثر والعالم». وتوضح أكثر: «بالتأكيد توجّهي سيكون نحو مؤسسات إعلامية شيعية، ولن أتنازل عن لبس العباءة مقابل فرصة عمل».
وبالنسبة إلى سميحة «فالعمل لا يعارض لبس العباءة»، رغم أنّ مجال عملها سيكون في العلاقات العامة، وتستطرد متسائلة: «هناك مؤسسات بالأساس ترفض الحجاب، فكيف العباءة؟»، وتقول بواقعيّة: «بالتأكيد فالفتيات اللواتي لا يرتدين الحجاب لديهنّ فرصة أكبر في الانخراط بسوق العمل من اللواتي يرتدينه»، ولكن في منطقتها ومحيطها (أي الضاحية الجنوبية لبيروت) لن تواجه صعوبات في العمل «لأنّ هناك قبولاً لهذا اللباس».
إلى جانب العمل، يبقى الارتباط العاطفي أساسياً بالنسبة إلى لابسات «التشادور». وفي هذا الإطار تكاد تتّفق الفتيات على أنّ العباءة تفرض خصائص الشاب الذي يريد الارتباط بهنّ. «أبحث عن الشاب الملتزم دينيّاً»، تقول زينب باطمئنان، أما سماح فقد ترك لها خطيبها حريّة الاختيار في هذا الموضوع، وهو «بالتأكيد ملتزم دينيّاً».
أما سميحة فتذهب أبعد من ذلك لتسأل: «كيف يمكن أن أكون ملتزمة دينيّاً والشاب الذي ارتبط معه بعلاقة حياة غير ملتزم؟»، وتجيب بتلقائية: «الزواج هو انسجام عميق على الصعيد الثقافي والفكري والروحي، إذا انعدم وجوده فشلت العلاقة».