رجل يعيد ما اشتراه إلى رفوف الاستهلاكية، سيدة تكتفي بثلاث حبات بندورة لتطبخها مع الأرز، طفلة حرمت من شراء الشوكولا الذي تحبه، بائع تتكدّس عنده البضائع... هذه باختصار يوميات اللبنانيين مع غلاء حوّل أحاديثهم اليومية عن السياسة التي فرّقتهم إلى الشكوى من معاناة مشتركة
مهى زراقط

للمرة الخامسة على التوالي تتصلّ سناء، العاملة في تعاونية كبرى، بالمسؤول عن أجهزة المحاسبة لتطلب منه إلغاء العملية الحسابية الأخيرة. لم يكن ما اشترته السيدة كثيراً: علبة حليب و2 كيلو تفاح. سمعت السيدة صوت سناء يعلن: 42 ألف ليرة، لكنها اعتقدت أن الموظفة تتحدث مع زبون آخر. مدّت الـ20 دولاراً (30 ألف ليرة) وانتظرت. كذلك فعلت سناء، قبل أن تقول: مدام، أريد منك 12 ألفاً بعد.
ـــ ماذا؟ لماذا؟ كم يجب أن أدفع؟ أدّيش حقّن؟
ـــ 42 ألف مدام
ـــ كيف؟ ليه؟ لحظة، كم سعر كيلو التفاح؟
ـــ 5 آلاف، والحليب 32 ألفاً.
ـــ معليه حبيبتي ما بدّي تفاح. بس أعطيني الحليب. فيها عذاب شي؟
تبتسم سناء وتجيب أن لا، تتصلّ بزميلها لإلغاء العملية ولا تمنع نفسها من القول: «حتى أنتِ يا مدام؟».
«حتى أنتِ» سؤال له مغزى، لأن المدام أستاذة جامعية وزوجها تاجر، أي إن وضعها الاقتصادي أكثر من جيّد، وهي لم تتعوّد أن تسأل عن سعر ما تشتريه، ولم يتعوّد عليها الباعة كذلك. لا تخجل السيدة من الإجابة: «إيه حتى أنا... معقول لكن سعر الحليب طار من 19 ألفاً إلى 32 ألفاً مرة واحدة».
إنه ارتفاع أسعار عالمي. هذا ما يشرحه إبراهيم، صاحب أحد محالّ السمانة. الدليل أنه كان قبل أسبوعين فقط، ينتظر على أحرّ من الجمر زيارة بائع الجملة للمواد الغذائية «حتى رجّعلوا هالبضاعة التي لا يشتريها أحد». هذه البضاعة هي عبارة عن أربعة أكياس كبيرة من الأرز المصري «عادة أبيع شوالين في شهر واحد، لقد مرّ شهر ونصف إلى اليوم ولم يفرغ الشوال الأوّل، لهذا انتظرت بائع الجملة لأعيد له نصفها».
لكن الذي حصل جعل إبراهيم يتمسك أكثر ببضاعته: «قال لي إني ربحت 3 دولارات في كلّ كيس من دون أن أبيع حبة واحدة، بين يوم وآخر ترتفع الأسعار». أي إنه بات يستطيع رفع سعر الأرز عن السعر الذي اشتراه «كان يفترض أن أبيع الكيلو بـ2500، لكني الآن أستطيع بيعه بـ2750هذا الأمر يبرّر اختلاف الأسعار بين محلّ وآخر «في الزاروب المقابل يمكنك أن تشتري كيلو الأرز بألف ليرة كما في السابق، بقي لدى البائع الكثير من البضاعة القديمة وهو يتصرّف على هذا النحو ليربح الزبائن». يقول إبراهيم بصراحة تامة فيما يمدّ يده بكيلو الأرز إلى عبد الله.
يضحك عبد الله وهو يخرج الـ2500 من جيبه «يا ريتك قلت لي قبل، كنت وفّرت الـ1500 وذهبت إلى العمل بسرفيس». عبد الله ابن الرابعة والعشرين يعمل في محلّ للحدادة ويتقاضى 450 ألف ليرة شهرياً. يتحمّس للإدلاء بـ«شهادته» عن تأثير الغلاء على حياتهم. «أبسط شي سأسرد لك ما حصل معي اليوم:
قبل أن أفتح الباب وأخرج سألتني أمي: «ماذا تريد أن تتغدّى اليوم؟» ورحنا نستعرض سوياً الاحتمالات الموجودة».
يلاحظ وهو يعيد سرد الحديث الذي دار بينه وبين أمه أنهما، الاثنان، لم يأتيا على ذكر اللحم «مع إنو والله كان طالع ع بالي كبة نيّة»… ثم يستطرد: «ومع أني اكتشفت خلال استعراض الاقتراحات أنها كلّها لم تكن أوفر بكثير». يقدّم مثلاً: طلبت منها لوبياء بلحمة، فاشترَطَت أن أدفع أنا ثمن اللوبياء لأن سعر الكيلو 5 آلاف.
ـــ لماذا اشترَطَت أن تدفع أنت؟
ـــ لأن والدتي تقسم راتب أبي المتقاعد أوّل الشهر، وتخصص مبلغاً محدّداً لوجبة الطعام باتت تتجاوزه يومياً. المهم، في حساب بسيط، تبيّن لنا أننا نحتاج أقلّه إلى 2 كيلو لوبياء بـ10 آلاف، مع نصف كيلو لحمة بـ7 آلاف، وكيلو رز بـ2500 وربطة خبز بـ1500 وعلبة صلصة بألفين. يعني دفعنا أكثر من 20 ألف ثمن وجبة واحدة من دون خضارها».
ـــ واشتريت أنت اللوبياء؟
ـــ لا... اشتريت خياراً لأنه الأرخص وسنتناوله مع مجدرة الرزّ. لا يزال عندنا عدس من المؤونة.
منزل أمّ محمد يخلو من العدس المجروش، ومن كلّ أنواع المؤونة. هذا الأمر سبب لمشكلة يومية بينها وبين زوجها الذي يتحسّر على أيام الحياة في القرية و«اختراعات» والدته المتعدّدة لمختلف أنواع الطعام «شرطك، كلّه مصنوع من البرغل الخشنلكن البرغل الخشن لم يعد مطلوباً بكثرة كما في السابق «حوّلت زوجتي كل القمح إلى برغل ناعم يستعمل لصنع الكبة». يعدّد في حضور زوجته أنواع «الطبخات» التي كان يمكن إعدادها: «بقلة حمص، برغل ولحمة، برغل وبندورة، مفروكة برغل، مجدرة حمراء...».
ينهي حديثه فجأة ويضحك. يقسم أنها المرة الأولى ربما التي يقارن فيها أمّه بزوجته من دون أن تثور الأخيرة، تضحك الزوجة بدورها وتبرّر: «يعني لازم تكون أمّه نافعة بشي شغلة... وفي ظروف مماثلة كنت سأستفيد منها كثيراً».
تخرج ورقة من حقيبتها، وتشرح بالأرقام فروقات الأسعار كما باتت تراقبها يومياً: «الزيت ارتفع من 14 ألفاً إلى 28 ألفاً. الزبدة من 1250 إلى 3 آلاف. اللحمة من 8 آلاف إلى 12 ألفاً و14. دواء الغسيل من 20 ألفاً إلى 24.
هذا الارتفاع في الأسعار يفرض تغييراً في السلوك، تبادر الطفلة ليال (5 سنوات) إلى شرحه قبل والدتها المدرّسة: «كانت ماما تأخذني معها إلى الدكان لأشتري شوكولا بمصروفي، صارت تشتري لي شوكولا مش طيب على ذوقها».
ليال «تعرف طعمة فمها» يقول البائع لأمّها. ولأنها كذلك كانت تفضّل دائماً أن تشتري لوح شوكولا واحداً على شراء آخر أقلّ ثمناً مع علبة عصير بالقيمة نفسها. لكن الآن ارتفت أسعار الشوكولا، وما لم يرتفع ثمنه انخفض حجمه «الشوكولا اللي كان بـ250 صار بـ500 وصنّعوا آخر أصغر منه لبيعه بـ250. الأمر نفسه بالنسبة للشيبسي وحتى علب الكورن فلكس».
إلى حرمان ابنتها من الشوكولا الذي تحبّ، باتت السيدة نور الدين تحرم نفسها من «ماركات» المواد التي كانت تشتريها: الزيت ارتفع سعره 100%، من حقي أن أشتري الأقلّ ثمناً. زبدة؟ كنا نأكل علبة يومياً، الآن أقول لشو... يمكن الاستغناء عنها».
وككلّ مشكلة... لا يخلو الأمر من طرافة. فبعد أن ارتفع سعر علبة الطحينة من 3 إلى 7 آلاف ليرة، ثم إلى 10500، بادر ربّ العائلة إلى شراء أربع مجمّعات: من يدري كم سيصل سعرها بعد أسبوع؟


«الآتي» وقد أتى!خليفة.
يستعيدان الأغنية تلو الأخرى، يردّدانها بصوت مرتفع. فجأة تضحك صديقته وتردّد «إيه والله صحيح». ذلك أن مرسيل كان يقول:
«وهللي جمّعلو قرشين/ فكّر حالو بيوفي الدين/ طارو فلوسو بصيبة عين/ تِلْت فراطة/ والتلتين/ كلينكس وورق تواليت»...
تتابع الأغنية:
«اللاطي بالوظيفة/ مشحتف وجيابو نضيفة/ مِهْري ونفسو شريفة/ ينطر زودة خفيفة/ مفعول رجعي وفروقات/
الله ينجينا من الآت».
يتذكر فؤاد أن هذا الشريط هو تسجيل لحفلة أقامتها فرقة الميادين في عام 1986: «كنّا في عزّ الحرب الأهلية، وقال والدي يومها: شو بعد بدو يصير فينا
أكثر».


من يجمع المليون؟

«وين الدولة!؟»
عبارة تتكرّر على لسان المواطن نعيم في البرنامج التلفزيوني الساخر «لا يملّ» الذي تقدّمه محطة المستقبل. نعيم نموذج المواطن اللبناني الذي ينتظر مرور أي كاميرا تلفزيونية ليشكو سوء وضعه (غير السيئ كما يوحي إلينا البرنامج)، محمّلاً الدولة مسؤولية كلّ شيء، حتى مسؤولية علاقته بصديقته مثلاً.
صحيح أن سؤال المواطن عن الدولة، في البرنامج المذكور، ليس القصد منه الوقوف إلى جانب المواطن بقدر السخرية منه، إلا أن العبارة تفرض نفسها ونفترض أننا سنسمعها كثيراً عندما نبدأ طرح الأسئلة عن موضوع يرتبط بلقمة عيش المواطنين. لكن الطريف (أو المحزن) في الأمر، أن أحداً من الذين طُرِح عليهم السؤال لم يوجّه لوماً للدولة.
يمكن القول إن المواطنين يئسوا من الدولة. أو إن شكوى مماثلة يمكنها أن تكون مجدية في بلد فيه دولة أصلاً، وتمارس سياسة من نوع ما. وهذا الأمر غير متوافر في لبنان، حيث تتغير المفاهيم والمصطلحات... وبالتالي السياسة ودورها.
المواطنون، على اختلاف انتماءاتهم السياسية، لاموا الأحزاب السياسية التي يوالونها أو يعدّونها مسؤولة عنهم لمجرّد انتمائهم الطائفي. «يتذكروننا عندما يريدون جمع المليون... لكنهم لا يدعون اليوم إلى تظاهرة».
أمر لا يستغربه كثيراً مواطن حضر أخيراً لقاءً دعا إليه نائب منطقته، وأوضح فيه أنه لا يمكن القيام بأيّ تحرّك مطلبي من هذا النوع لأن الغلاء مشكلة عالمية لا دخل للدولة فيها.
هذا المواطن لم يصدّق النائب... يعود بالذاكرة إلى أيام الحرب «ولجوء التجّار إلى رفع الأسعار في كلّ مرّة يشمون فيها رائحة «زودة» على الرواتب».