جان عزيزقارئ جيد، أو ممتاز، هو وليد جنبلاط. أو على الأقل، فهو يعرف كيف يجعل المصادفات حتمية متطابقة بين أهوائه واتجاهات الريح.
«حادث الحدود» الأوّل بينه وبين النظام السوري في لبنان، كان خريف عام 2000. يومها دعا جنبلاط من تحت قبة ساحة النجمة إلى «إعادة تموضع» سوري، وإلى البحث في «كيفية تحسين الإدارة السورية للملف اللبناني». ويومها، لمصادفة أولى، كانت واشنطن قد بدأت تقرأ من داخل إدارتها كلاماً لمن سيصبح بعد أقل من عامين، من عتاة المحافظين الجدد، عن «ضرورة أن توحّد الولايات المتحدة جهودها في سبيل إطاحة النظام البعثي في سوريا وإطلاق حقبة جديدة من الاتحادات القبلية والعائلية والعشائرية في ظل حكومات محدودة النطاق».
استنفرت دمشق يومها فوراً، وانقضّ أبو جاسم على أبو تيمور، الذي انكفأ بعد أيام، لا خوفاً من «الشماغ» البعلبكي، ولا احتراماً لموقع القيادة القومية لحزب البعث طبعاً، بل لأن نظرية «مقاربة سوريا أوّلاً»، رجحت يومها في واشنطن، على نظرية إعادة دمشق إلى عصر ما قبل الدولة. فاستكان سيد المختارة، ولبث ينتظر ظرفاً أفضل، وقراءة ومصادفة أكثر واقعية.
ولمجرد الذكرى والاستدلال، كان صاحبا النظريتين المتقابلتين في واشنطن، كلٌّ من دايفيد وورمسر خلف ضرب سوريا، ومارتن انديك خلف «مقاربتها».
مضت الأعوام القليلة. ضرب «المقاتلون من أجل حرية أفغانستان» سابقاً، في قلب أميركا، فانقلبت الأمور رأساً على عقب.
جاء ريتشارد بيرل وبول وولفوفيتز ورفاقهما إلى المثلث الفدرالي، وصار وورمسر نفسه يتنقل، أو يترقّى، بين معاون جون بولتون، مساعد وزير الخارجية، ومستشار دوغلاس فايث في البنتاغون، وصولاً إلى احتلاله، بدءاً من تشرين الأول 2003، منصب مساعد ديك تشيني للشؤون السورية. وفي مواقعه هذه كلها، كان وورمسر ينقل من مكتب إلى آخر ملفاً أزرق يعود إلى عام 1996، كتبه لنتنياهو تحت عنوان «التحرر التام». وفي أحد فصوله إسهاب لأهمية «إزالة الدولة القومية العلمانية في دمشق»، وضرب النظام السوري عبر «دعم الهاشميين في الأردن والعراق»، وعبر إخراجه من لبنان، واستعمال الأمم المتحدة... وغير ذلك مما صار بعد أشهر على انتقاله إلى البيت الأبيض، سياسة أميركية رسمية.
يومها تأكّد وليد جنبلاط أن الفرصة باتت سانحة، وأن ربع القرن من الكذب الذي احترفه أو اضطر إلى اعتماده قسراً، قد اقتربت نهايته.
وصحّت قراءات أبو تيمور وتوقعاته و«الفلير» السياسي الذي صار من أبرز ميزاته. صدر القرار 1559، خرجت دمشق من بيروت. اجتاحت النشوة صدور المتلوّنين طويلاً، فذهبوا بعيداً في الكلام والمواقف.
بعد أربعة أعوام على تلك الموجة العارمة، عاد النقاش إلى واشنطن: كيف نتعامل مع سوريا؟ وعاد مارتن انديك نفسه، صاحب الخبرة الاستخبارية الطويلة، والموقع التحليلي النافذ، والجنسية الإسرائيلية والأوسترالية، وصاحب العلاقات المتقاطعة في أكثر من عاصمة. قبل خمسة أيام، وقف انديك، ومعه بيتر رودمان، آخر زائر رسمي أميركي إلى دمشق قبل أكثر من ثلاثة أعوام، أمام مجلس النواب الأميركي. رودمان شنّ هجوماً على سوريا ونظامها، فبدا تكراراً لصدى عتيق. أما انديك، فقدّم ورقة مفصّلة تحت عنوان: «مستقبل العلاقات الأميركية ــــ السورية». خلاصة نظرية انديك، أن من الضروري جداً لواشنطن أن تقارب دمشق إيجابياً، وإلا فإن انطلاق التفاوض السوري الإسرائيلي بمعزل عنها سيؤدي إلى ضرر كبير بالمصالح الأميركية، وخصوصاً بلبنان.
وبلغة الأستاذ المعلّم، عدّد انديك الأسباب الموجبة:
ـــ ثمّة مصلحة إسرائيلية في التفاوض مع سوريا، والأخيرة لن تُقدم على الخطوة، إلا إذا شاركت واشنطن.
ـــ يمكن لمقاربة دمشق أن تضيّق خط التواصل السوري الأميركي، في ظل تحوّل طهران الخصم الإقليمي الأبرز لواشنطن.
ـــ السلام الإسرائيلي ــــ السوري يزيل آخر الأعداء المجاورين للدولة العبرية، ويعزز صيت واشنطن كصانعة سلام، ويشجّع الدول العربية الأخرى على تطبيع علاقاتها مع تل أبيب، ويغيّر موازين القوى لمصلحتنا بعد أزمة العراق.
ـــ إطلاق المسار السوري سيشجّع على إطلاق المسار اللبناني، وبالتالي حصار حزب الله، ومن ثم زيادة التباين السوري ــــ الإيراني...
أكثر من دزينة من الأسباب الرئيسية والأهداف الفرعية، تحتّم «مقاربة» دمشق إيجابياً، قال انديك، وسط إنصات وإعجاب لفّ تلّة الكابيتول وجوارها.
قرأ جنبلاط ورقة انديك حتماً. غداً قد يبدأ كتابة ترجمة درزية لها...