نقولا ناصيفلا يبدو من قبيل المصادفة أن الأيام الأخيرة رفعت شعار «إعلان نيّات» في أكثر من اتجاه داخلي وخارجي. وبعد رئيس المجلس نبيه بري ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط في ضرورة الخوض في جولة جديدة من الحوار الوطني، انضم إليهما رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري. مع ذلك، انطوت المناداة بـ«إعلان نيّات» على أكثر من مغزى:
ـــــ مطالبة رئيس المجلس بحوار تحت هذا الشعار توطئة لإنجاز تسوية داخلية متوازنة، طرح جدول أعمال خالياً من الشروط المسبقة التي اعتادت المعارضة وضعها على الطاولة، ليس في عداده انتخاب المرشح التوافقي قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. وهي إشارة كافية إلى الموالاة أن هذا البند لا يدخل في مقايضة التسوية وتبادل المكاسب. لا هو جزء من حكومة الوحدة الوطنية، ولا من قانون الانتخاب.
ـــــ نجاح رهان جنبلاط على دعوة برّي إلى الحوار مع انضمام الحريري إليها، وإبدائه مرونة في التعامل مع قانون الانتخاب، الهاجس الرئيسي للزعيم الدرزي الذي اعتاد تلقف قانون انتخاب يرضيه هو أولاً وقبل سواه، وإن حلا للبعض أن يقول إن اتفاق الطائف خُرق في سنواته الأولى بسبب أهمية تفهّم هاجس جنبلاط والحاجة إلى ذلك. حصل ذلك في انتخابات 1992 و1996 عندما استثني جبل لبنان من دائرة المحافظة. وعلى جاري العادة فإن الأركان المسيحيين في قوى 14 آذار الذين نفروا من الدعوة إلى الحوار قد وضعوا أنفسهم على هامش ما التقى عليه برّي وجنبلاط والحريري. في واقع الأمر لا يتناقض الاتفاق على قانون للانتخاب مع الإصرار على انتخاب سليمان رئيساً. وفي بساطة يرى جنبلاط أن على الموالاة أن تتوقع تقديم تنازلات في قانون الانتخاب، وأن لا تحمل إلى الانتخابات النيابية المقبلة مَن ليس في وسعه أن يحمل نفسه إليها. بات الاستحقاق الرئاسي لا المرشح هاجس برّي، وقانون الانتخاب لا حكومة الوحدة الوطنية هاجس جنبلاط.
ـــــ إبداء الرئيس السوري بشار الأسد استعداده للذهاب إلى الرياض والقاهرة لفتح صفحة جديدة من علاقات بلاده مع السعودية ومصر. وهو «إعلان نيّات» سوري جديد لا يتعارض مع سلسلة خطوات عبّر عنها الأسد منذ انتهاء أعمال القمة العربية في دمشق نهاية الشهر الماضي، بدءاً بلهجة هادئة طبعت خطاب الافتتاح، مروراً بالقرارات الختامية ــــ بما فيها القراران المتعلقان بلبنان والمبادرة العربية لتسوية أزمته ــــ وقد حرص على إصدارها بالإجماع، انتهاءً بنفيه قبل أيام ما شاع عشية القمة من معلومات قيل إن مصدرها السلطات الرسمية السورية وهو توصّلها إلى خيوط مسؤولية دولة عربية في اغتيال المسؤول الأمني البارز في حزب الله عماد مغنية. أضف انفتاح الرئيس السوري على مساع جديدة لتسوية مع إسرائيل. كان الأسد قد أصغى في هذه الفترة القصيرة، ما بين نهاية قمة دمشق والأيام الأخيرة، إلى برّي يحدّثه عن دور جنبلاط في معادلة التسوية في لبنان. بذلك يعيد رئيس المجلس ــــ أو هو يريد أن يعيد ــــ ربط التسوية الداخلية بالعلاقات اللبنانية ــــ السورية. ولأن لا انتخاب رئيس لا يطمئن سوريا، فلا إعادة بناء لعلاقات لبنانية ــــ سورية لا دور لجنبلاط بالذات فيها.
شعار «إعلان النيات» هذا، بوجهيه اللبناني والسوري، كان خلاصة وقائع مثيرة للانتباه عبّرت عن تدهور رهانات الموالاة والمعارضة في آن واحد في سياق نزاعهما الداخلي، فتخلّتا ضمناً عن العديد من التهديدات التي كانتا تتبادلانها في الأشهر الأخيرة. ولعلّ أكثرها حساسية أن الأركان الوقورين في الموالاة ما عادوا يهدّدون بالمحكمة الدولية، والأركان الوقورين في المعارضة ما عادوا يهدّدون بإسقاط شرعية حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وسلاح حزب الله.
بعدما أصرّت المعارضة على الرئيس ميشال عون مرشحها الوحيد لرئاسة الجمهورية، ثم طالبت بحكومة وحدة وطنية بثلث معطّل، راح السقف السياسي ينخفض تدريجاً إلى عدم رفض ترشيح قائد الجيش للرئاسة ــــ لئلا يقال الموافقة عليه ــــ بعدما رشحته الغالبية، فإلى القبول بالمثالثة في حكومة الوحدة الوطنية، ثم إلى تجاهل الحديث عن هذه والبحث في قانون الانتخاب، وصولاً إلى دعوة برّي لجولة جديدة من الحوار تنتهي برفع الاعتصام من وسط بيروت، وأخيراً وليس آخراً الذهاب إلى حوار «إعلان نيات».
بدورها، قوى 14 آذار راحت تخفض سقفها السياسي بدءاً بالإصرار على نصاب انتخاب الرئيس بالأكثرية المطلقة، مروراً بترشيح مَن كانت رفضت ترشيحه وقد نعتته بحليف دمشق، وهو العماد سليمان، ذهاباً إلى العودة إلى حوار داخلي في ظلّ الجامعة العربية بمنأى عن شرطها الوحيد للتسوية وهو انتخاب مرشحها رئيساً، فإلى استعدادها لمناقشة تأليف حكومة وحدة وطنية وفق المثالثة، فإلى تراجعها عن توسيع الحكومة تارة وترميمها طوراً، فإلى إصرارها على خوض ملف العلاقات اللبنانية ــــ السورية عبر الجامعة العربية ورفضها أي حوار يلبنن مشكلة قائمة مع سوريا قبل أن تكون مع لبنانيين آخرين، فرفضها أي حوار يسبق انتخاب سليمان، ثم تأييدها الذهاب إلى حوار برّي، لتصل إلى السقف الأدنى وهو التحاور مع المعارضة إذا كان يؤدي إلى انتخاب المرشح التوافقي، ثم استفسارها مَن يجلس مع مَن إلى طاولة الحوار.
يصحّ هذا الأمر أيضاً على العلاقات السعودية ــــ السورية. تبادلت الرياض ودمشق كميّة كبيرة وكثيفة من الرسائل ــــ وبعضها انطوى على تهديدات ــــ عشية القمة العربية وغداتها. غابت عنها المملكة فأضعفتها، وانتقدت المعارضة اللبنانية وأصرّت على أن لا حوار مع سوريا قبل انتخاب الرئيس. في المقابل، ترأس الأسد قمة على أراضيه خرقتها دول الخليج جارات المملكة، ونأى بالأزمة اللبنانية عن جدول أعمالها وأعاد ترتيب أولوياته للعلاقات الثنائية مع الرياض التي تبدأ بحوار البلدين توصلاً إلى تسوية الأزمة اللبنانية، إلى أن انتهت النبرة المعتدلة للأسد ــــ وقد عدّ قمته ناجحة ــــ بالقول ضمناً إن ذهابه المحتمل إلى الرياض يفتح صفحة في علاقات البلدين تطوي صفحة الأزمة اللبنانية. وهكذا بلغ لبنان الموعد الـ19 لانتخاب رئيس متوافق عليه، ولكنه لا يُنتخب بمعزل عن تسوية سورية ــــ سعودية.