80 ألف مسيحي «سَلَّمهم» الجميّل وجعجع و... الكنيسة
غسان سعود

بعد مصالحة القوّات والاشتراكي، والعونيين وحزب الله، بدأت الحياة السياسيّة تعود إلى البلدات ذات الغالبيّة السكانيّة المسيحيّة في إقليم الخروب وساحل جزين (أو شرق صيدا)، في ظل استعادة القوى المسيحية في هذه المنطقة جزءاً من الثقة بالنفس وبالقدرة على التصرف «المتساوي» مع القوى في البلدات المجاورة. وخصوصاً أن عددهم يتجاوز 80 ألفاً.
لكن هذه العودة السياسيّة تجد نفسها أمام أربعة مطبّات:
* أوّلها أن نسبة الأهالي الذين عادوا إلى منازلهم بعد تهجير 28 نيسان 1985 لم تتخطّ 20%.
* ثانيها أن الأهالي الذين سلّموا أمرهم قبل التهجير إلى القوات اللبنانيّة وأمّها الكتائب دفعوا الثمن من رزقهم وحياتهم ودمهم، وباتوا حذرين جداً في تعاملهم مع الأحزاب.
* والمطبّ الثالث يتعلق بقانون الانتخابات، إذ همّش قانون غازي كنعان التوجهات المسيحيّة في هذه المنطقة وشتّت أصوات المقترعين بين دائرتين أساسيتين ليس لهم فيهما أية قدرة تأثير عمليّة.
* أما المعوّق الرابع، فمتصل بحضور الكنيسة في هذه المنطقة. إذ يقال إن تلكؤ الكنيسة في إثبات حضورها في الإقليم وشرق صيدا، وامتناعها عن تفعيل مؤسساتها التي كانت مزدهرة قبل التهجير، يحبطان الناس، ويشجعانهم على هجر أرضهم.
في التفاصيل، يروي منسق التيّار الوطني الحر في صيدا والزهراني بسام نصر الله أن الحياة كانت طبيعيّة جداً في منطقته رغم حروب الطوائف في معظم المناطق بين 1975 و1985. ولكن بعد 5 أيام من انتفاضة سمير جعجع وإيلي حبيقة باسم القوات على حزب الكتائب عموماً والرئيس أمين الجميّل خصوصاً، فوجئ الجميع في 19 آذار باندلاع المعارك في شرق صيدا (هنا تكثر التحليلات، أبرزها يقول إن الجميّل حاول زعزعة المنتفضين بتنسيقه مع السوريين لافتعال المعارك عبر حلفائهم). وسرعان ما زار جعجع المنطقة، عاملاً على رفع معنويات المقاتلين والفاعليات ليعود بعدها إلى بيروت ويعلن وقف إطلاق النار من جانب واحد وسحب المقاتلين رغم اعتراض حبيقة وقواتيين آخرين على هذه الخطوة التي لم تأخذ في الاعتبار ضمان أمن أهالي المنطقة وسلامتهم.
وهكذا انسحب القواتيون بأسلحتهم وآلياتهم في اتجاه بيروت، وهرع الأهالي الذين تركوا دون سلاح في اتجاه جزين، وفي مخيلتهم يتردد صدى الروايات التي سمعوها عن مجازر الجبل بعد قرار جعجع بالانسحاب أيضاً. ومعظم من بقي في أرضه، يتابع نصر الله، لقي حتفه على يد مقاتلي الحزب التقدمي وبعض الفصائل الفلسطينيّة، وسط حياد سلبي من اللواء 12 في الجيش الذي «وقف يتفرَّج على المجازر».

هُجّروا ولم يعودوا

وبعد أقلَّ من أسبوعين، بدأت مسيرة العودة التي استهلّها المطران سليم غزال، بمظلّة أمنيّة من حركة أمل، فتسلم دار العناية في بلدة الصالحيّة، وتمكن أن يعيد بسرعة معظم المهجرين من: مغدوشة، برتي، عين الدلب، والقريّة. وهي بلدات هجرها أهلها خوفاً من تقدم حركة أمل، لكنهم عادوا بعد أيام ووجدوها كما تركوها تماماً، يقول نصر الله. ولاحقاً كان الأهالي يعتمدون على علاقتهم الجيدة مع رئيس التنظيم الناصري مصطفى سعد وشقيقه أسامة ليدخلوا المنطقة ويتفقدوا منازلهم. حتى صدر عام 1991 قرار مجلس الوزراء القاضي بإخلاء القرى المحتلة. وضمّت المنطقة إلى صلاحيات مجلس الجنوب الذي حدد مبلغ 20 مليون ليرة لكل شخص من أجل إعادة الإعمار، و8 ملايين للترميم.
ولكن، رغم صدور القانون 362/2001 في 15 آب 2001، القاضي بتخصيص 300 مليون دولار لمجلس الجنوب لإقفال ملفات المهجرين، وفق الشروط نفسها المعتمدة في صندوق المهجرين، لم تصرف الأموال. وبقي التعويض عالقاً، لبلدات إقليم الخروب وشرق صيدا كما لمعظم المناطق المحررة.
وما زال أصحاب 700 وحدة سكنيّة في ساحل جزين والإقليم ينتظرون منذ 15 عاماً التعويض عليهم، رغم أن التكلفة لا تتخطى 6 ملايين دولار. الأمر الذي يصفه أهالي المنطقة بالتهجير المستمر، مشيرين إلى أن المبالغ المجتزأة التي دفعت للمتضررين لم تكن تكفي لإعادة إعمار شقة مساحتها 150 متراً مربعاً، مما اضطر معظم الأهالي إلى بيع المنزل والشراء في مكان آخر، أو بيع جزء من أرضهم ليكملوا الإعمار. وطبعاً في الحالتين كان ثمّة (خصوصاً خليل ياسين، المقرّب من تيار المستقبل) من يقدم عروضاً كريمة لشراء الأراضي التي تصل بين مخيم عين الحلوة ومنطقة كفرفالوس التي كان يقال إن الرئيس رفيق الحريري اشترى أراضيها لتوطين الفلسطينيين. ويُذكر أن بعض البلدات، مثل الهلاليّة، لم يعد أحد من أهلها إليها بعد أن جرفها الاشتراكيّون. وكان ثمة بلدات عدة دمرت بكاملها مثل علمان، المطلة، مزرعة الضهر، والبرجين، ثم أعيد بناؤها. وتم جرف معظم منازل الهلالية، البرامية، مجدليون، الصالحية، وعبرا.

خوف من السياسة

معظم العائدين، كانوا حتى عام 2005 يتوزعون في انتمائهم السياسي بين تأييد حركة أمل والتنظيم الشعبي الناصري نتيجة شعور هؤلاء أن هذه الأحزاب كانت أحنُّ عليهم من أحزابهم التقليديّة، ولا سيما الكتائب والقوات. ورغم استعادة القوات بعضاً من حضورها في المنطقة، فإن ثمة ما يشبه المرارة الإجماعية وسط أهالي هذه البلدات من تصرف القوات والكتائب.
ويقول أحد المسنين في بلدة عبرا الجديدة إن التقدميين يتحملون مسؤولية نسبية عن المجازر والتهجير، لكن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق «الحكيم» الذي انسحب آخذاً كل السلاح، دون أن يبقي للناس حداً أدنى من الأسلحة الدفاعيّة التي تمكنهم من الصمود على الأقل بضع ساعات لتأمين مخرج ما.
فيما يرى ابن الجيّة، وصاحب كتاب «سفر العودة... وبعد» الدكتور ناصيف القزّي أن لسقوط الجبل وشرق صيدا وإقليم الخروب انعكاسات سلبية وقاسية جداً على الجميّل وجعجع، فالأول، كان رئيساً للجمهوريّة وبالتالي القائد الأعلى للقوات العسكريّة ولم يأخذ أي قرار بتحريك الجيش، رغم المجازر التي حصلت. ولم يقم بالاتصالات المطلوبة منه للحدِّ مما يحصل رغم تمتعه، في تلك المرحلة، بخطوط اتصال مهمة مع السوريين. أما الثاني فحصد من تلك المعارك ألقاباً جديدة، أشهرها «بطل التهجير»، ومعظم أهالي هذه المناطق ما زالوا يرددون كلما ذكر جعجع أنه «كان يأتي يخربها وينزل». ويستغرب القزّي الكلام عن رؤية جعجع «الاستراتيجية» بعد زجّه الأهالي في معركة خاسرة حتماً، الجريح فيها ميت نتيجة الموقع الجغرافي. مذكراً بأن الأهالي الذين هُجّروا نحو منطقة جزين، لم يجدوا من يلتفت إليهم، واضطروا أن يعودوا على نفقتهم الخاصة إلى جونية.
على صعيد التيار الوطني الحر، ثمّة تنظيم واضح وانتشار كبير، وقد سجل العونيون في انتخابات 2005 حضوراً قوياً، وحصدوا قرابة 70 في المئة من نسبة الأصوات. وبعد تفاهم التيار مع حزب الله والتنظيم الناصري تطور حضورهم في هذه المنطقة نتيجة اطمئنان الناس أمنيّاً، وشعورهم بأنهم باتوا يستطيعون إيصال من يمثلهم إلى الندوة البرلمانيّة (مهما كان شكل القانون الانتخابي)، مع الأخذ في الاعتبار أن علاقة غالبيّة الأهالي آل سعد جيدة، فيما لم تستطع النائبة بهية الحريري أن تعزز علاقتها معهم رغم اتهام البعض إيّاها باستعمال المال.

دور الكنيسة

على صعيد توفير «مقوّمات الاستمراريّة»، يحمّل كثيرون الكنيسة جانباً من المسؤوليّة عمّا وصلت إليه أمور مسيحيي المنطقة. ويسأل بعضهم عمّا قدمته الكنيسة لأبنائها قبل أن تحصل المجازر وأثناءها، وبعد تهجيرهم حين وصلوا إلى مرفأ جونيّة ولم يجدوا منزلاً يؤويهم أو يداً تساعدهم. والأسوأ، يقول أحد أبناء بلدة عين المير، إن بعض من في الكنيسة شجع على انخراط أبناء المهجرين أكثر مع الميليشيات المسيحيّة، وتحوّل هؤلاء وقوداً لاستمرار هذه الميليشيات.
ومن جهته، يقارن نصر الله بين ما قدمه مجلس الجنوب وما قدمته الكنيسة لتثبيت الناس في أرضهم، مشيراً إلى أن الأول قدم، إضافة إلى التعويضات المتعارف عليها، آباراً ارتوازيّة، ومدَّ الكهرباء ووصل شبكة المياه بسرعة. أما الكنيسة فتجاهلت المنطقة وانشغلت بإعمار وحدات سكنيّة ومجمعات تربويّة وإقامة مشاريع تنمويّة في مناطق لديها أصلاً ما يكفيها. وبحسرة تقول إحدى سيدات كفرجرّة إنه قبل عام 1985 كان هناك مؤسسات مسيحية مدنيّة مهمّة أبرزها دار العناية ومدرسة الفرير في الرميلة التي كانت تتبع للأخوية المريميّة. لكنها اختفت لتحلَّ محلّها مؤسسات صيداوية «نيو طالبانيّة» تابعة في معظمها لآل الحريري.
وتشرح السيدة أن الكنيسة لم ترسل إدارة إلى المدرسة بعد 1992. و«سعى كثيرون لدى البطريركية المارونية لتوكيل الإدارة إلى دير المخلص التابع لمطرانية الروم الكاثوليك، ولكن في كل مرة كانت البطريركيّة المارونيّة تعرقل هذا الاتفاق. ورفع الموضوع إلى روما حيث لا يزال عالقاً». وتتابع السيِّدة كلامها: «يستصعب كثيرون العودة، فوضع المؤسسات التربويّة غير مشجع من جهة، ومن تأقلم مع حياة بيروت تصعب عليه العودة من جهة أخرى».
وسط شوق الناس للكلام عن قصتهم التي لم يسلط الضوء عليها كما يفترض، يشير أحدهم شرقاً وشمالاً قبل أن يشرح أن القصة ليست بالسذاجة التي يعتقدها البعض، ويتابع: «تهجير ساحل جزين يكشف عن خطة قديمة جديدة لإقامة دويلة صغيرة للفلسطينيين تمتد بين صيدا جنوباً وكفرفالوس شمالاً. خطة بطلاها الأساسيان سمير جعجع وأمين الجميّل. بحيث تفصل الدولة الفلسطينية بين الدولة الدرزية التي استكملت باحتلال التقدمي مرفأ الجيّة شمالاً، والدولة الشيعيّة جنوباً، على أمل تمكّن جعجع من إقامة الدولة المسيحية بين كفرشيما والمدفون».


سعد والشيوعي

يُحكى أن النائب الراحل مصطفى سعد، الذي أصيب في أول شباط 1985 بتفجير في منزله، كان هاجسه في المستشفى الذي تلقّى فيه العلاج في الولايات المتحدة «أولاد شرق صيدا»، والوسائل المتاحة لإرجاعهم.
وبعد عودته أنّب بشدة كل من شجع على الدخول في المعركة، ولو في آخر أيامها.
واتصل بالأهالي ليقطفوا الزيتون من أرضهم بعد أشهر على تهجيرهم.
فيما يسجل للشيوعيين إنقاذهم شباب الناعمة القواتيين وأهالي كثيرين من المجزرة، فسارعوا إلى ادّعاء اعتقالهم قبل أن يصل إليهم مقاتلو الحزب التقدمي، ثم أطلقوا لاحقاً.


كفرشيما ـ المدفونبقيت الأمور هادئة حتى 19 آذار 1985، بعد خمسة أيام من انتفاضة القوات على الكتائب. وتربط الكاتبة ريما فرح في كتابها «إيلي حبيقة القضية والقدر» بين انسحاب القوات المفاجئ وقول جعجع بعد سقوط الجبل وقبيل بدء معارك شرق صيدا «إن علينا حماية مجتمعنا من كفرشيما إلى المدفون وتأمين كل مقوّماته».