يصعب التفكير في ابتعاد ابنة الثامنة عشرة عاماً للعيش وحدها في المدينة، بعيداً عن أهلها. لكنّ الطالبات يجهدن في إقناع أولياء أمورهنّ بالموافقة على السكن قرب الجامعة. هناك تختبر الفتيات الاستقلالية في العلاقات الشخصية وتختفي الحدود ما عدا تلك التي يضعنها لأنفسهنّ
محمد محسن

تنطلق بحماسة بالغة رحلة التسجيل في الجامعة بالنسبة إلى فتيات عدة يسكنّ قرى وبلدات بعيدة عن الجامعات في المدن. يتطلب المشوار الأول من القرية نزول الوالد أو الأخ مع الفتاة كي تتم عملية التسجيل الأكاديمي، والبحث عن السكن «المستقل». يبدأ العام الجامعي الأول، فتبدأ التغييرات بالسريان في حياة فتاة القرية، ويزداد الشعور بالمسؤولية. بعد مرور وقت على انتقالهنّ من البيئة القروية إلى بيئة المدن، وتحديداً إلى أجواء السكن الجامعي تتحدث بعض الطالبات عن تأثيرات وفوارق شعرن بها. وقد بدا الاتفاق واضحاً على مجموعة من النقاط تشابهت أجوبة الفتيات بشأنها، ولا سيّما غسل الملابس وتغيّر نوعية الطعام.
ثم إنّ المسؤولية تزداد بعد الإقامة في السكن الجامعي، فترصد رهام (20 عاماً) تزايداً في المسؤوليات، بعدما انتقلت من قريتها حانين في الجنوب، إلى مقاعد كلية العلوم في الحدث. تخاف رهام على سمعتها وتحسب خطواتها بدقة، «العلاقات تتوسع ولكن ضمن حدود»، على حد تعبيرها.
تشاطر جمانة (21 عاماً) رهام الرأي، فالفتاة الآتية من العبادية في الشوف تبدو مرتاحة للأجواء، وقد تغيّر الكثير في حياتها، بحسب ما تقول. تفضل جمانة الحديث على انفراد، مبررة طلبها بأن الفتيات قد يفهمن كلامها بشكل خاطئ «فالقيل والقال كثير، وخصوصاً هنا في سكن الطلاب في الجامعة اللبنانية في الحدث». ترى جمانة أنّ ما يسمّونه فلتاناً وانحلالاً تغيّر طبيعي، فالسكن المستقل وفّر لها «حرية كانت محرومة منها في بيئتها القروية». هي الآن تخرج في مشاوير ممنوعة في القرية. تُقرّ بأنّ شخصيتها تغيّرت بشكل كبير، وذلك بسبب التنوع الذي صادفته، وتؤكد أنها تعاملت معه «بذكاء شديد». تصمت قليلاً، لتعترف بتغيّر سلبي طرأ على حياتها الأكاديمية «رسبت في امتحاناتي. تراجع درسي كثيراً لأنه ليس هناك من يجبرني على الدراسة».
ترفض رهام المنطق الذي قدمته جمانة لتبرير «فلتانها»، فالسكن الجامعي لم يؤثر على طريقة تفكيرها وتربيتها، بل على العكس «رسخ قناعاتي بصوابية التربية التي تلقيتها في القرية». وترى أن هناك تغيرات طالت شخصيتها، مرتبطة بالبيئة الجديدة التي تسيطر على السكن الجامعي. فأكثر ما أعجبها هو «التنوع السياسي والطائفي الرائع» الذي أتاح لها التعرف إلى أشخاص كانت تظن أن التواصل معهم «مستحيل». هي مبهورة جداً بالاستقلالية الكبيرة التي منحها إياها السكن بعيداً عن سلطة الأهل الذين «أشتاق إليهم دائماً». وتتجلى هذه الاستقلالية التي تتحدث عنها رهام في نمط العلاقات الشخصية الذي تغيّر عليها كثيراً، وهو «شيء إيجابي» تحرم منه بنات القرى.
تعاود سارة (21 عاماً) التأكيد على أن المسؤوليات تكبر عندما تسكن الفتاة لوحدها. تبدأ بسرد تفاصيل التغييرات التي مرت بها. بالنسبة لها فإن قاعدة «كل ممنوع مرغوب» سقطت، نظراً لأنّ كل شيء يصبح هنا «مباحاً»، وتعدد: «وقت الخروج والدخول، أشياء أخرى كان ممنوعاً عليها القيام بها كالخروج مع الجنس الآخر والتدخين».
تسقط الأعراف التي تجري مراعاتها في القرى بالنسبة إلى هؤلاء الفتيات أمام اعتبار واحد لا أكثر الحاجة، تختفي الحدود إلا تلك التي يضعنها لأنفسهنّ. يرفضن جميعاً الفكرة التي تقول إن البنت التي تأتي من القرية إلى الجامعة «بتفلت». كان رأيهنّ موحداً: التربية في المنزل هي الأساس. يظهرن إعجاباً بالتغيير الذي سيساعدهن في ميدان العمل. بقي موضوع وحيد يشغل بال رهام، هو أن تساعدها صديقتها في الغرفة لأن تكون «هادئة أكثر مع من يخالفونها الرأي من الأطياف الأخرى»، علماً بأن النقاش في السياسة ممنوع بقرار ذاتي: «لأننا نريد الحفاظ على روعة التنوع الذي نعيش فيه، سئمنا من أوساخ السياسة في الخارج، ولا نريد إدخالها إلى بيتنا».