جان عزيز«بيروت لن تنسى من عمّر، ولن تغفر لمن دمّر». كذا. التوقيع «تيار المستقبل ـــــ منسّقيّة بيروت». شعار مطبوع على ملصقات زرقاء أنيقة، ومرفوعة في شوارع العاصمة بيروت.
المستدلّ عليه بفعل من «عمّر»، معروف، وشبه بديهي، في افتراض خلفية من رفع الشعار. إنه طبعاً رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري. عندها يصير «عدم نسيانه» المتعهّد به من جانب الموقّعين، أمراً مفهوماً وطبيعياً. لكن ماذا عن المقصود بفعل من «دمّر»؟
وأي استدلال للتعهّد المقابل بعدم المغفرة له من جانب أصحاب التوقيع نفسه؟
ماذا لو كان المقصود، على سبيل المثال والجدل المنطقي، «حزب الله»، على خلفية حرب تموز 2006؟ عندها يصير الملصق الأزرق البسيط، إنذاراً أحمر خطيراً، على مستوى الذاكرات والوجدانات وتخيّلات الجماعات، قبل أن يكون الأمر كذلك في واقع الأزمة الراهنة، وأزقة بيروت وموازين الأحياء ومخاطر إشكالات التوتر والشحن.
إنذار أحمر خطير، إذا ما عطف على كلام كثير قيل سابقاً، إبّان الحرب وبعدها.
في بيروت والقاهرة وعمان والرياض. ويظهر خطره أكثر وأوضح، إذا ما رُبط بكلام تسيبي ليفني قبل أسبوعين من الدوحة: «أيها العرب، إسرائيل ليست عدوّكم، بل إيران هي العدو». وتضحي جسامته أكثر مساساً بتركيبة العقل العربي، حين نقرأه على خلفية جورج بوش مثلاً، باكياً رفيق الحريري، ومعه كل أمته.
في الصالونات السياسية والاجتماعية اللبنانية، غالباً ما يطرح الموضوع على طاولة البحث: أين أصبح الوجدان السنّي اللبناني من قضاياه البنيوية؟
وغالباً ما يختم النقاش بمعادلة توفيقية: السنّة في لبنان ليسوا ضد المقاومة، لكنهم يرفضون تعاطي «حزب الله» معهم. السنّة في لبنان لم يتخلّوا عن عدائهم لإسرائيل، لكنهم يرفضون التعاطي الإيراني الراهن مع دول الخليج، ومحاولات طهران مدّ نفوذها من أفغانستان حتى غزة، مروراً ببغداد وبيروت.
إلى حد ما، تبدو تلك المعادلة محاولة ناجحة ضمن قواعد المجاملة واللياقة الاجتماعيتين.
لكن ماذا عن العامل الأميركي؟ هل يؤدي دخول واشنطن ومؤسسة نظامها، على خط تلك المعادلة، إلى خربطة ما؟
تقف واشنطن بقوة إلى جانب الفريق الحريري السنّي في لبنان، فتبدو طرفاً كامل العضوية في تبنّي أهدافه: المحكمة الدولية. القرار 1701. دعم الحكومة القائمة. نزع سلاح حزب الله. رفض التدخل السوري. إدانة الامتداد الإيراني في بيروت... هكذا يصير التماهي السياسي بين المنطق السياسي الأميركي والتموضع الحريري السنّي اللبناني شبه كامل.
لكن اللبنانيين لم يقرأوا ربما بعد، الأدبيات الأميركية المعدّة للذكرى الستين لما يسمّيه الوجدان السنّي «النكبة»، ولما هو في واشنطن «قيام دولة إسرائيل المعاصرة».
في مشروع قرار قدمته رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، إلى زملائها، لمناسبة 14 أيار المقبل، تقول القابضة على سلطة التشريع الأميركية أو تقترح على بلادها، قانوناً ينص على الآتي: «بما أن رغبة الشعب اليهودي في إقامة دولة إسرائيل المعاصرة المستقلة، هي نتاج لوجود مملكة إسرائيل التاريخية على أرض إسرائيل منذ 3 آلاف سنة، وعاصمتها مدينة أورشليم، بما أنه طيلة ألفي عام كان هناك وجود وإقامة يهوديان مستمران على الأرض التي تضم دولة إسرائيل المعاصرة (...) بما أنها منذ تأسيسها قبل 60 عاماً، بنت دولة إسرائيل المعاصرة أمة، وصقلت مجتمعاً ديموقراطياً جديداً ودينامياً، وخلقت اقتصاداً متوثّباً، وحياة سياسية وثقافية وفكرية، رغم خسائر الحرب الجسيمة والإرهاب، والمقاطعة غير المبرّرة دبلوماسياً واقتصادياً لشعب إسرائيل، بما أن شعب إسرائيل أسّس نظاماً متحركاً، تعددياً ديموقراطياً، يشمل حرية التعبير والتجمع والدين وحرية الإعلام والانتخابات الحرة والنزيهة وحكم القانون والنظام القضائي المستقل بالكامل والمبادئ والممارسات الديموقراطية
الأخرى...».
قبل أن تطول حيثيات القانون الأميركي المقبل، معدّداً «فضائل» إسرائيل على العالم لتنتهي إلى مقررات الدعم الكامل في الوجود كدولة للشعب اليهودي، والدفاع عن نفسها وتمنّي كل الازدهار والسلام لمستقبل
شعبها...
ماذا سيفعل الوجدان السنّي اللبناني إزاء هذه الأميركا؟ هل يتكيّف مع سكيزفرينياه الجديدة؟ أم يقرّر ويحسم انتماءه إلى هذه الأدبيات، ضد إيران؟ أم سيسأل سعد الدين الحريري عن تركة والده في حركة القوميين العرب؟ مسألة متروكة لأعوام مقبلة، لكن سؤالها مطروح بعد أيام.