ابراهيم الأمينالصمت العربي إزاء ما يحصل في غزة، وانشغال القوى العربية الكبيرة في سبل معاقبة سوريا لرفضها الضغط على حلفائها في لبنان، يعكس بصورة أكثر وضوحاً تجاه الرياح لدى الولايات المتحدة الأميركية ومن معها في لبنان والمنطقة العربية. وهو الاتجاه الذي ينبئ بمرحلة صعبة ومليئة بالدماء والقهر. وقد يصعب توقع أي تسويات في المدى المنظور، وخصوصاً أن هناك تقديرات بأن الأمور قد تذهب إلى فترات أبعد من موعد القمة العربية المرتقبة نهاية هذا الشهر في سوريا.
دمشق قررت المضي في تحضيرات القمة، وهي تستبعد إقدام أحد على محاولة تأجيلها أو عقد قمة بديلة عنها، حتى لو كانت قمة استثنائية في القاهرة. وتتصرف دمشق على أساس أنّ من سوف يغيب عن القمة يتحمّل المسؤولية وحده عن عدم حصول نقاش حقيقي بشأن الملفات الساخنة التي تواجه دول المنطقة.
وبحسب ما هو متوافر لدى القيادة السورية من مواقف، فإن السعودية تبدو حتى اللحظة الدولة الوحيدة التي قد لا تتمثل بأيّ مندوب في القمة المقبلة، ويدرسون في دمشق احتمال أن يغيب حتى مندوب المملكة لدى الجامعة العربية. لكنّ دمشق لا تتوقع مقاطعة مصرية أو أردنية، حتى لو خُفض مستوى التمثيل، من دون حسم مسألة تخص احتمال قيام الرئيس المصري حسني مبارك بزيارة قريبة إلى سوريا من أجل محاولة ترتيب الأمور مع السعودية من جهة، أو البحث في ملف لبنان من جهة ثانية. أما بشأن دول الخليج العربي الأخرى فواضح أن أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني سوف يكون حاضراً، فيما تسعى الكويت إلى رفع مستوى حضورها بما لا يغضب السعودية من جهة، ولا يترك آثاراً سلبية على العلاقات مع سوريا، فيما كان نائب رئيس دولة الإمارات حاكم دبي محمد بن راشد واضحاً في إبلاغ سوريا بأن بلاده سوف تكون ممثّلة في القمة، وإذا قرر رئيس الدولة خليفة بن زايد عدم الحضور فإن محمد بن راشد سوف يحضر، وهو الذي يتحدث بصراحة أمام أفراد قيادة الإمارات، وأمام القيادات الغربية، عن مصلحة بلاده القوية في ترتيب علاقاتها مع سوريا ومع إيران. وهو قال كلاماً مماثلاً خلال زيارته الأخيرة إلى كل من دمشق وطهران. وهو من أكثر القيادات الخليجية رفضاً لأي حرب في المنطقة، ويتردّد أنه سبق أن تحدث بهذا الأمر صراحةً مع الرئيس الأميركي جورج بوش خلال زيارة الأخير إلى المنطقة. ويروي أنه صعد وبوش إلى أعلى مبنى في إمارة دبي وبدأ الرئيس الأميركي يعبّر عن إعجابه بما هو منجز في هذه الإمارة الصغيرة. فقال له بن راشد: هل تعلم أن هذا المبنى الضخم سوف يتهاوى بصاروخ واحد إذا اندلعت الحرب؟ الرواية نفسها تقول إن بوش استمع إلى الكلام وردّ بأن «هناك في الخليج من قال لي الكلام نفسه»
دون المزيد من التوضيحات.
إلّا أن الأمر بالنسبة إلى سوريا يتجاوز كل هذه التوترات القائمة مع عواصم عربية. ويرى المسؤولون فيها أن المشكلة هي في الأساس مع الأميركيين، وأن واشنطن تريد إنجاز ترتيبات مع سوريا ومع إيران في العراق، لا في أي مكان آخر، لكن ليس هناك من يستطيع الجزم بإمكان إنجاز هذه الترتيبات في وقت قريب. ويقول المسؤولون السوريون إن الولايات المتحدة تركض وراء إيران في العراق، وطهران تقول لها بكل بساطة إنها ليس على عجلة من أمرها. وبحسب المسؤولين السوريين، فإن الأمر يتعلق بعملية سياسية قد تشهد المزيد من التأرجح من الآن حتى موعد الانتخابات الأميركية.
ويبدو أن في دمشق من يراهن بقوة على استمرار الأمور على هذا النحو حتى دخول الولايات المتحدة الأميركية مرحلة اللاقرار، وأنه في حال حصول الانتخابات فإن أي إدارة جديدة حتى لو كانت بيد الجمهوريين أنفسهم ستسلك طريقاً مختلفاً عن طريق الإدارة الحالية، وبالتالي، فإن تغييراً ما سوف يحصل. وليس على أي طرف عربي أن يقدّم أي نوع من التنازلات.
وفي شأن لبنان، لا تبدو دمشق قلقة من التطورات الجارية الآن، لا بل هي ترى أن كل ما يجري منذ سنة حتى الآن يظهر الطرف الحاكم والتابع للولايات المتحدة الأميركية محدود القدرة على إحداث نقلة إضافية. بل على العكس، فإن التيار المعارض يبدو أكثر قوة وكذلك دور سوريا. وبالتالي، فإن الضغوط التي تمارَس الآن تحت العنوان الرئاسي وخلافه تعكس التوتر الذي تعيشه العواصم العربية التي تتبنى المشروع الأميركي. ويتحدث المسؤولون السوريون بصراحة عن موقف السعودية، ويرونه ضعيفاً حتى عندما تلجأ الرياض إلى خطوات مثل سحب رعاياها من لبنان. وذلك لأن دمشق ترى أن مشكلة السعودية تبدأ من فشلها في أماكن أخرى، وأن مشهد الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في بغداد لهو الإشارة الأقوى إلى فشل السياسة السعودية، وهو الأمر نفسه الذي يخصّ لبنان، لأنه لا يمكن أن يُفرض على اللبنانيين أي حل لا تقبل به قوى المعارضة، وهي القوى التي لا يمكن سوريا أن تمارس عليها الضغوط لمجرد أن واشنطن طلبت ذلك، هي أو فرنسا أو السعودية.
ومع أن دمشق واصلت دعمها للمبادرة العربية فإنها ليست مسرورة تماماً من الآلية التي يتّبعها الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، وهي تهتم كثيراً بملاحظات قوى المعارضة اللبنانية التي تتّهم موسى بالانحياز إلى الطرف الآخر، وأنه يقود معركة الآخرين، وذلك منذ أن وضع تفسيراً للمبادرة بخلاف ما اتّفق عليه وزراء الخارجية العرب في القاهرة.
إلّا أن سوريا لا تتعامل بخفة مع الاستعراضات العسكرية للولايات المتحدة الأميركية قبالة لبنان، ولا هي تنظر نظرة عادية إلى العدوان الإسرائيلي على غزة، ولا هي تُخرج من حساباتها احتمال شنّ العدو حرباً شاملة على لبنان وسوريا. لكنها تدعو إلى التمييز بين الحذر والتحسّب والذعر الذي أصاب البعض بمجرد أن أطلق الآخرون مواقفهم ذات السقوف العالية. وتدعو دمشق إلى التعامل بواقعية مع عناصر الأزمة لأن في ذلك ما يؤكد بحسب رأي المسؤولين فيها أن المشروع الآخر يعاني ضموراً أكبر من الحقيقة، وأن مشكلة التيار المعارض للسياسات الأميركية أمام الجماهير العربية تكمن في طريقة التخاطب وضعف الإعلام المتحرر من حكومات الدول الموالية للمشروع الأميركي في المنطقة.