هرب شباب الضاحية الجنوبية إلى غير واقعهم. صوّروا علاقاتهم وفق ما يعتقدون أنه مطلوب إعلامياً... وإن كانوا غير مؤمنين به. يعرفون في دواخلهم، كما في العلن، أنّهم لن يكونوا أبداً «هؤلاء». «هؤلاء» الذين وجد فيهم شباب الضاحية صورة «الآخر» الذي لا يريدونه
العلاقات بين الجنسين لم تعد «تابو»... والأحياء ليست «غيتوات»
راجانا حمية
لم يكن الطلب غريباً، فقد اعتاد شباب الضاحية «الجوّ». حملوا العدّة منذ الصباح الباكر وانطلقوا إلى مبنى مركز الخدمات الإنمائية التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية في الغبيري، حيث ينتظرهم أربعة شباب، بعضهم يقصد الضاحية للمرّة الأولى، والبعض الآخر «ابنها» لكنه لا يعرف الكثير عنها. في جعبتهم بضع معلومات عن ماهية الطلب، كان قد أخبرهم بها زميلهم في «مدرسة العامليّة» علاء عواضه قبل أيّام: «في شباب بدهن يعلمونا التصوير بالمركز». لكن يبدو أنّ الطلب وصل إلى علاء بطريقة خاطئة، فهنا أربعة شباب «تغريهم» ضاحية فيها الكثير من الحكايات والعادات التي لا يعرفها إلّا من يعيشها، ويرغبون أن يصوّرها لهم أحد أبناء الضاحية نفسها. الثلاثة الأوائل، محمّد قبيسي وشيرين دياب ونازاريت بابازيان، هم أعضاء مجموعة «lebanon mirrored»، ورشا (صاحبة الطلب) الآتية من جمعيّة «كفى عنف واستغلال» ضمن مشروع «تمكين المرأة في الضاحية الجنوبيّة».
تعرف رشا الضاحية، وكالعادة اكتشفت فيها أمراً جديداً. هذه المرّة الشباب السبعة عشر الذين أتوا من «قلب» الضاحية لا يخشون «البوح». وبوسعهم الكلام عن أيّ موضوع، وإن كان ذاك الذي أتت به رشا عن «العلاقات بين الجنسين». أعطتهم العنوان، وتركتهم لعملهم مع محمّد وشيرين ونازاريت... لكتابة سناريو الفيلم الأوّل عن ماهيّة هذه العلاقات، إضافة إلى التمثيل والتنفيذ والإخراج والمونتاج.
ثلاثة أيّام كانت كافية للشباب والضاحية. فهنا، بين الشباب السبعة عشر لم تعد العلاقات بين الجنسين «تابو»... والضاحية أيضاً ليست «غيتو». هكذا بدا المشهد حتّى قبل البدء بالتصوير. فجلسات الحوار جمعت الفتيان والفتيات معاً وجهاً لوجه أمام علاقات قد تجمعهم يوماً ما. حوار لا يشبه ما عداه في الضاحية (وخصوصاً لمن تابع حوارات مماثلة قبل ذلك)، فقد كان الشباب أكثر وعياً لموضوع يمسّهم مباشرة، وأكثر جرأة في مناقشته، لا مكان للخوف أو الخجل، وإن كان البعض في غالبيّة الأحيان تكلّم بلسان «الجارة» أو «وحدة بعرفها».
انتهى الحوار، وعدنا إلى المشهد الأساس، تصوير الفيلم عن تلك العلاقات. بدأ العدّ العكسي. تأبّط كلّ منهم حلمه، علاء عواضة أمام الكاميرا وسحر خريس من وراء الكواليس تدير «الدفّة»، بمساعدة يوسف سرحان، وفي الوسط ستّة ممثّلين يصفون واقع العلاقات بين الجنسين، الذي اختارت حنان وريحانة أن يكون «وصفاً دقيقاً لوضع لم يعد خافياً على أحد»... و«قد يكون اسمه الغدر»، و«قد لا يعبّر بالضرورة عن رأي الكاتب والممثّلين». لكن الشباب أرادوه هكذا ليعبّر عمّا يعيشه المجتمع اللبناني فقط، أو عمّا تحبه الكاميرا، لا عنهم هم.
في «الغدر»، لم يمثّل الشباب واقعهم. تقمّصوا أدوار «الآخرين» التي تطبع المجتمع الذي يعيشون فيه، فركّزوا في السيناريو على الخيانة المتبادلة بين الطرفين و«المصاحبة» غير الشرعيّة. في المشاهد الأربعة للفيلم، تبادل الممثّلون الأدوار، فكانت «الزوجة» خائنة في المشهد الأول، وفي الثاني كان «هو» الخائن الذي يقضي أيّامه من «صاحبة» إلى أخرى، وفي الثالث الأخت وفي الرابع الحبيب. وقد حافظ الممثّلون في فيلمهم على «التوزيع الطائفي» في الأسماء، التي اختلفت من مشهد إلى آخر. فهنا كريستال وجوزف وهناك يعودون إلى حقيقتهم محمّد وروان وشيرين.
ولم تخلُ مشاهدهم من بعض المواقف الطريفة، فكانت صورة الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله على هاتف محمّد عبد الله، أو «جوزف»، بطل الفيلم، أولى «الشرارات» للحديث بلغة «ضاحيوية»، سرعان ما تلقّفها الرفاق. ففي أحد المشاهد، كان من المفترض أن يصوّب علاء الكاميرا على هاتف «جوزف» عندما تتّصل به «لودي»، وهنا كان المشهد «الطارئ»، صورة «السيّد» بحجم شاشة الهاتف، مع أغنية للفنّانة إليسا «بتمون على ضحكي أنا بتمون»، ما أثار موجة من الضحك على هذا المزج بين «ثلاثة لم يجتمعوا يوماً...السيّد وإليسا وجوزف».
ضحك «جوزف» لهذه المفارقة، وضحك أيضاً لأنّه في تلك اللحظة لم يستطع أن يبقى هو جوزف، فعاد إلى «محمّد» وإلى موقفه من السيّد والضاحية قائلاً «يللا، خلّيها تبيّن ضاحية، وحطّولي شي رنّة للسيّد»، فكان الردّ من أحدهم «شو ما في مسيحييّ بحبّوا السيّد، وين راحوا العونيي؟».انتهى الفيلم. وأبدى فيه الشباب براعة في التصوير والتمثيل والإخراج رغم ضعف الإمكانات، حيث لم يكن لديهم سوى غرفة في الطابق الخامس من مبنى المركز لإنتاج الفيلم، وعدّة أتى بها شباب «lebanon mirrored».
لكن النقاش لم يبدأ بعد. فقد عاد كلّ إلى موقعه، وما كان قبل ثلاثة أيّام تجربة جميلة «تعرّفنا من خلالها على أشياء لم نكن نحلم بها»، بات في لحظة «الجدّ» واقعاً مرفوضاً لا يعبّر عنهم. هذا ما يعترفون به في لقاء جمعهم مع «الأخبار» لمناقشة التجربة.
لا ينكرون أنهم وجدوا لذّة في تنفيذه، لكن من دون أن يكون لهم. تقمّصوه بتفاصيله، وإن كانوا يريدونه بعيداً عنهم. فشباب الضاحية الذين وجدوا ملاذهم في أحيائها، لم ينخرطوا في سواها، آمنوا بها، بواقعها... وبحدودها، ورسموا لعلاقاتهم مسافات تحدّها من جهة عاداتهم وتقاليدهم ومن جهةٍ ثانية تفهّمهم لتميّزهم عن الآخرين.
في النقاش ما بعد الفيلم، جلس «الممثّلون» إلى طاولة واحدة. نزع كلّ منهم شخصيّته وعاد إلى لغته. محمّد عبد الله، أو جوزف، الوحيد الذي قبل بتمثيل غالبيّة المشاهد، كان الوحيد أيضاً الذي «انتفض» على دوره وفيلمه، فهو يرفض أن يكون هو «جوزف»، الذي ينتقل من فتاة إلى أخرى. لم يكن محمّد في وارد أن يثور، لو أنّ روان شكر، (صاحبته لودي في الفيلم) اكتفت بالتعليق على الفيلم ولم تستطرد إلى إطلاق أحكام عامة عن الفرق بين «هنا» و«هناك». سحبت أحداث الفيلم على حياتها الخاصّة وبيتها ووالديها ولباسها قائلة، مثلاً، «ثيابي يتفهمونها بالشرقيّة أكتر، هم منفتحون ومقتنعون بأنّ الفتاة إذا لبست قصير، مش قصدها تفرجي إجريها». لم يعجب الردّ محمّد، فهو لا يقبل هذا الكلام «على أختي أو بنت عمّي أو حبيبتي، التي لن أقبلها في منزلي إلّا محجّبة، وإذا بدها تتعرّى هيك، فلي فقط، وإلّا فهي ليست محترمة».
وكرّت السبحة... إلى أن وصل النقاش إلى نقطة «تماس» بين الضاحية و«الحي الشرقي». بين العادات والتقاليد والتعاليم الدينيّة وبين المجتمع الآخر الذي لم يزره معظمهم إلّا في فترة الحرب الإسرائيلية الأخيرة في تمّوز. فقد غيّرت هذه الحرب في البعض منهم تفاصيل صغيرة. يقول علاء عواضة، الذي عاش ثلاثة وثلاثين يوماً في عين سعادة «صوب القوّات» إن «البنات كانوا مزنطرين، لكن كان عندهن احترام لدينهن». هنا انقسم الشباب بين مؤيّد ومعارض، ولم يجد محمّد مبرّراً سوى القول «مجتمعنا نحنا شي ومجتمعهم شي تاني». ربّما كان هذا صحيحاً، فروان، «المتعمّقة» أكثر في الديانة المسيحيّة، لكونها تعلّمت في «مدارس الراهبات منذ الصغر»، لم تجد في «مجتمعهم» ما يميّزه عن مجتمع الضاحية «لكنّهم أكثر تفهّماً للفتاة، إذا أرادت أن تعمل».
عودة أخرى إلى نقطة البداية، إلى جدل آخر. فقد انقسم الشباب مجدداً. بعضهم يؤيّد عمل المرأة وبعضهم الآخر يرفضه، ومن الطبيعي أن يكون محمّد الرافض الأوّل، وخصوصاً أنّه «إذا ما في حاجة للعمل، فممنوع عليها، ولتتفرّغ لعائلتها... ضروري ولادي يربوا مع دادا؟». أمّا علاء، فلا يستطيع احتجاز حرّية من يحب «والعمل لم يكن يوماً حكراً على الشاب وحده». وفيما يعود حسين فرحات في تبريره لعمل الفتاة إلى المراجع الدينيّة «التي لم تفرض على الفتاة البقاء في المنزل فقط، ففي عهد النبي محمّد، كانت المرأة تلقي الخطب»، يرى أنّه «من الأفضل للفتاة المتزوّجة أن تضحّي بعملها إلى حين يكبر أولادها، وإلّا فليتّفق الاثنان على أن لا ينجبا الأطفال». وهنا يؤكد محمّد مجدداً أنّ «الفتاة عليها أن تكون لأطفالها وعائلتها وملتزمة، لأنّنا نعيش في مجتمع له عادات وتعاليم وتقاليد».
لم ينتهِ النقاش، لكن كان لا بدّ من العودة إلى الموضوع الذي بات بعيداً... بُعد «الشرقيّة» عن «الغربيّة»، وانتهى بخلاصتين. إحداهما لحسن فرحات، الشقيق التوأم لحسين «لا تهدي من أحببت إنّ الله يهدي من يشاء»، والثانية من نازاريت... ومن دون خطوط حمر «العاهرة عاهرة وين ما كانت».


lebanon mirrored

وُلدت lebanon mirrored في الضاحية، بين ثلاثة شباب. محمّد وشيرين ونازاريت، يجمعهم «الهوس» نفسه، الفنّ والموسيقى والتعبير. كان من الممكن ألّا يكون هذا اسمها، فقد سبق للثلاثة أن التقوا ولم يفكّروا في تأسيس مجموعة، لكنّهم في الضاحية وجدوا أنّ ثمّة حاجة إلى البقاء معاً، حيث ارتأوا أن يكونوا مرآة لمن يحتاج إليهم.
بدأت المجموعة أول نشاطاتها في الغبيري، بناءً على طلب منظّمة «كفى عنف واستغلال»، لمساعدة الشباب على إنتاج فيلم عن العلاقات بين الجنسين. فكان الهمّ الأوّل منذ بداية اليوم الأوّل للتصوير أمام الثلاثة، إيجاد فسحة أمام الشباب للترفيه والتعبير عن كل ما يرغبون فيه، وعن أحلامهم وطموحاتهم، وإيجاد فسحة لهم أيضاً للتعرّف على الضاحية الجنوبيّة التي كانت حتّى فترة سابقة لمن يعيش فيها فقط.
وجودهم في الضاحية ثلاثة أيّام غيّر الكثير من المفاهيم، كما غيّرت حرب تمّوز في نظرة بعض شباب الضاحية إلى الضواحي الأخرى، فنازاريت ابن «الشرقيّة» وجد الضاحية «مغايرة لما يُعرض على TV، اكتشفت العمل ضمن مجموعة من بيئة جديدة، أكلنا وعشنا أوقاتاً جميلة اختزلت خطوط التماس». شيرين تعلّمت أيضاً من الضاحية «أنّه ما في أفكار مسبّقة، لا صح ولا خطأ، لكننا هنا نشعر بأننا نعبّر عن أنفسنا في إطار حرّ ومن دون أحكام». أمّا محمّد، ابن الشيّاح في الضاحية الجنوبية، فاكتشف المدينة التي يعيشها والأشخاص الذين لا يطلبون من الآخرين سوى أن «تتقبلّونا كما نحن».
lebanon mirrored التي بدأت خطوتها الأولى في الضاحية، لا يزال أمامها ألف ميل أخرى في ضواحٍ أخرى. فيها شباب يحتاجون إلى مرآة ليعبّروا، من دون شروط أو خطوط حمراء، على أن تتطرّق في كلّ مرّة لمواضيع اجتماعيّة مختلفة، يختارها الشباب أنفسهم ويشاركونها فيهم.


الوطن هو الحامي
تعرف المتخصصة في علم الاجتماع تيريز عطا الله أنّ شباب الضاحية ليسوا فقط الذين يشعرون بانتمائهم القوي إلى محيطهم واكتفائهم به. من جهة ثانية، هي لم تجد في لغة «هم» و«نحن» شيئاً جديداً «وخصوصاً أنّها متجذّرة في مجتمعاتنا»، فهي أيضاً تستعمل هذه اللغة في حديثها. عند سؤال عطا الله عمّا يدفع الشباب إلى الحديث بتلك اللغة، تبادر إلى القول «مجتمعهم هيك بيفرض عليهم، عندهم بروفيل معيّن وعادات معيّنة تختلف عمّا هو موجود هنا». وهي تستند في تبريرها إلى دراسة أجريت منذ وقت ليس ببعيد عن «الأقلّيات المسلمة في محيط اجتماعي مسيحي والأقلّيات المسيحيّة في محيط اجتماعي مسلم»، وخلصت إلى أنّ «كلّ تصرّفات تلك الأقلّيات تنطبع بالمجتمع المحيط بها». وانطلاقاً من الدراسة، تجد عطا الله أنّ الضاحية «ذات الغالبيّة الشيعية، من الطبيعي أن يلتزم أبناؤها عاداتها، فتربيتهم الدينيّة القائمة على التحفّظ والتديّن تدفعهم إلى النظر إلى المجتمع الآخر بهذه الطريقة، وكذلك يفعل الآخر». لكنها لا تستثني من المعادلة، أن يكون بعض الشباب في الضاحية «مفتقدين الحرّية الشخصيّة في التصرّف، وقد يشعرون في أوقات كثيرة بالرغبة في التحرّر من الانضباط الشديد والتزمّت والضغوط المفروضة، سواء من العائلة أو المجتمع»، والدليل على ذلك «أنّ تصرفّات الطلّاب الشيعة في جامعة AUST في الأشرفيّة، حيث تعلّم، أكثر عفويّة وانفتاحاً ممّا هي عليه في محيطهم». وإذا كانت عطا الله مقتنعة بأنّ «كل مجتمع له بروفيل خاصة به»، فإنّها ترى أنّه «لو كنا ننتمي بدايةً إلى الوطن، فلربّما كانت الطائفة قد اختصرت كل هذه التعقيدات، وكان الوطن هو الحامي»، مشيرة إلى «أنّ الشباب يعيشون اليوم حالة من التشرذم، تدفعهم إلى التمسّك بالطائفة وبهويّتها بعيداً عن الهويّة الكبرى».