جان عزيزأيّاً تكن نتيجة الهجوم الإسرائيلي على غزة، فالمرجّح أن يكون صداها في واشنطن ارتياحاً ورضى كبيرين. والأسباب ليست عسكرية بالطبع، بل أعمق من موازين العسكر وحسابات الأرض وأخطر. المرجّح أن تكون «مؤسسة التفكير والتقرير الأميركية»، بكل دوائرها ومقارّها، تعيش الآن لحظة إحساس بانتصار كبير، نتيجة أمر واحد، هو انحسار ردود الفعل العربية والإسلامية تجاه ما حصل في غزة. وهو انحسار لامس حدّ الغياب والانعدام، مقارنةً بوضعيات مشابهة من عقود سابقة، من أيام الناصرية حتى أزمنة منظمة التحرير، اللتين اجتاحتا كل العواصم الشرقية في فترات متلاحقة زمنياً.
ولمزيد من التفصيل، تبدو واشنطن اليوم، بعد نحو عقدين على تفرّدها بقيادة العالم، وبعد نحو نصف عقد على انتكاسة مشروعها «الديموقراطي» للعالمين العربي والإسلامي، وقد اقتنعت وقنعت بالانكفاء إلى حدود بنيتين تنظيميتين وحيدتين. الأولى يمثّلها المجمع الصناعي ـ العسكري النافذ جداً في أرض «الحلم الأميركي»، والثانية تضم ما بقي من تلامذة إروين كريستول و«مشروع العصر الأميركي الجديد»، أي حفنة الخارجين من مغامرة المحافظين الجدد.
وبات معروفاً وواضحاً، الحدّ الذي تقف عنده أهداف كل من البنيتين وغاياتهما والأغراض. فالمجمع الصناعي ـ العسكري، الذي يضم شبكة المصالح الاقتصادية الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية، يملك هدفاً واحداً، هو البقاء في دائرة السلطة الفدرالية، للإفادة من نعيمها ومغانمها، وفق قاعدة «النظام المهترئ» (سبويلد سيستم) المعروف. أما آخر أيديولوجيي «الدمقرطة»، فبات تركيزهم على كيفية مواجهة المارد الإسلامي، في شكل لا يعرّض للخطر «رؤيتهم» (بالمعنى البيبلي للكلمة) «لروما الجديدة».
هكذا تتضّح أكثر، زاوية النظر الأميركية حيال ما جرى على أرض غزة. فالاقتصاديون يعرفون تماماً أن بقاءهم في السلطة، في ظل سنة انتخابية، يحتاج إلى الكثير من دعم اللوبي الإسرائيلي الشهير. أما الأيديولوجيون، فيتصوّرون أن أولى الخطوات الضرورية لمشروع مواجهتهم «قطب الإسلام»، هي إرساء نظرية «احتواء مزدوج» له، مماثلة لما كان الأمر مع الاتحاد السوفياتي.
أن تدخل الآليات العسكرية إلى قطاع غزة، وتقتصر ردود الفعل العربية والإسلامية على ما حصل في الأيام الماضية، يمثّل بلا شك تقدماً كبيراً في مرامي الفريقين. وذلك تحت عنوان أن تبطل فلسطين قضية مركزية في وجدانات الشعوب والمجتمعات المحيطة بإسرائيل. وهذا العنوان كافٍ وحده، من أجل إنعاش الرضى والارتياح في نفوس الاقتصاديين والأيديولوجيين.
فالاقتصاديون ضمنوا عدم إزعاج أو انزعاج لوبيهم النافذ. وهو ما يمثّل ضرورة ماسّة لماكينة جمع التبرعات المليونية، المنطلقة منذ أشهر مضت وحتى تشرين الثاني المقبل.
أما الأيديولوجيون، فقد تنفتح أمام تصوراتهم، طرق أكثر فاعلية لتحقيق احتوائهم المطلوب لخطر الإسلام. ذلك أن سقوط الموقع المركزي للقضية الفلسطينية يعني بالنسبة إليهم تغيير عناوين الصراع في المنطقة. وجوهر هذا التغيير المطلوب بالنسبة إليهم نقل نوازع الصدام إلى تقاطعين جديدين، هما التقاطع السني ـ الشيعي، والتقاطع الإثني ـ العرقي، بكل ألوانه.
يتذكر الباحثون أن «الاحتواء المزدوج» للشيوعية، كنظرية منبثقة من نتيجة الحرب العالمية الثانية، قام أساساً على تطويق موسكو بالديموقراطيات الليبرالية غرباً، وبالحركات الإسلامية شرقاً. وهو تطويق أخذ في الاعتبار طبيعة المجتمعات المحاذية آنذاك للمارد الأحمر. وتبيّن بعد عقود أن النظرية كانت صحيحة وفعالة. بدليل بدء تفكك الستار الحديدي في بولونيا وأفغانستان.
أما «قطب الإسلام»، فتبدو حدوده الجغرافية عصيّة أكثر على احتواء مماثل. وهو ما يقتضي تطويقاً داخلياً أكثر منه خارجياً. وفي هذا السياق، يمثّل التقاطعان السني ـ الشيعي والعربي ـ غير العربي، أفضل حدّين لتجسيده، أو حتى لتفجيره. غير أن فلسطين ظلت من دون شك، خرقاً كبيراً لهذا التصوّر في أذهان أيديولوجيي واشنطن. خرق يعتقد كثيرون أن جهداً كبيراً قد بُذل من أجل سدّه، بدءاً من العراق، وصولاً إلى كل الخليج والمشرق العربي.
حين يسقط الأطفال في غزة، غزة الملاصقة لأرض عبد الناصر، ولا تتكرّر مشاهد التظاهرات المليونية في شوارع الدول المحيطة، فالرضى والارتياح الأميركيان سيكونان شبه كاملين. عقب انتصار واشنطن على موسكو مطلع التسعينات، عنون البعض: «مات كارل ماركس، عاش آدام سميث». بعد صمت غزة، قد يعنون بعض آخر في واشنطن منتصراً أيضاً: «مات أطفال غزة، عاش كبار الاعتدال».