strong>مهى زراقط تقترب فاطمة من الغرفة، وما إن تطأ قدماها عتبة الباب، حتى تطرح، كعادتها، سؤالاً: هل نقول مدمِّرة أم مدمَّرة؟
الإجابة معروفة، يقدّمها كلّ الموجودين في الغرفة: «مدمِّرة، ولَو؟». لكن عندما تكون فاطمة من يطرح السؤال يجب البحث عن إجابة أخرى، أو انتظار تعليقها: «كان قصدي هي وجايي أو هي ورايحة؟».
لا يمرّ وقت طويل قبل أن تعود فاطمة إلى طرح سؤال آخر عن اسم المدمّرة كول. فقد أطلّ رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع ليشكر الولايات المتحدة الأميركية على إرسالها هذه البارجة، لأنها بذلك فرضت نوعاً من التوازن... يصبح سؤال فاطمة: «هل صار اسمها كول وشكور (واشكر)».
«العبرة في ما سيؤكل ومن سيأكله»، تأتي إجابة أخرى.

هذا مثل على حديث ساخر تناول فيه لبنانيون موضوع البارجة الأميركية. في حديث آخر، كان السؤال عن قدرات هذه البارجة، عمرها (وقد أتمت الثالثة عشرة في 10 شباط ـ فبراير الفائت)، تاريخ شفائها من إصابتها بعد تدميرها في خليج عدن...
أما السؤال عن مهمتها فليس ضرورياً جداً. هو يشبه السؤال عن موعد الحرب المقبلة، التي يجهد اللبنانيون في اختراع أساليب استقبالها، أو الهرب منها «المهم أن تأتي... صاير فينا مثل اللي عم يحرقصوه بالقتلة، يطعمونا إياها حتى نخلص مرة واحدة».
المدمّرة كول، كما الحرب المقبلة، لم تعودا كلمتين عابرتين على ألسنة اللبنانيين. هم لا يتحدثون عن مجرد بارجة حربية أو حرب مقبلة بالمفهوم المطلق. حجم الحديث اليومي عنهما، وتكراره، «أنسَنَهما»، وانضمتا بذلك إلى لائحة من «أناس» لا يغيبون عن لسان الشارع. أميركا، سوريا، إسرائيل، السعودية، فرنسا... وسريلانكا. كلّ هذه، لم تعد دولاً، بل صارت أشخاصاً يتابع اللبناني يومياً «تصرّفاتها» ويحلّلها كما يتابع نموّ طفله في المنزل.

يتصرّف «لبنان» من موقع المراقب، فيطلق أحكاماً وأوصافاً: السعودية «تضغط»، سوريا «خائفة»، أميركا «تسيطر»، فرنسا «تناور»... أما سريلانكا، فوحدها التي لا تغيّر وظيفتها (ولا مشاعرها). عليها أن تعمل. فقط أن تعمل... وإذا تمرّدت يوماً، فلا مانع من أن تقول لها ربة العمل: «شو مفكرة حالك امبراطورة؟». ذلك اليوم، لم تعرف سريلانكا أنه كان بوسعها الإجابة: «مفكرة حالي مثلي مثلك؟» (راجع الإطار أسفل الصفحة)
إنها فاظمية، خادمة تحمل الجنسية السريلانكية. كانت تتحدث مع شقيقتها التي تعمل في السعودية عبر الهاتف. أخبرتها الأخيرة أنها قلقة عليها، لأنها تتابع الأخبار، وسمعت أن السعودية لا تريد لرعاياها أن يبقوا في لبنان.
فاظمية أيضاً تتابع الأخبار، وباتت تعرف أن السعودية لم تبادر إلى مساعدة أطفال غزة الذين يموتون، وتمنعها صورهم من متابعة تناول الطعام. تتذكر أن هذه الصور تشبه ما رأته خلال الحرب الإسرائيلية، التي نجت منها. تسأل «المدام» وتعرف أن المجرم واحد: إسرائيل وأميركا.
هي تحمل رأياً مختلفاً بأميركا «عندما جاء التسونامي أرسلت لنا أميركا طعاماً؟ ألم ترسل لهم أيضاً؟». تغضب «المدام» وتبدأ بكيل الشتائم لأميركا وإسرائيل... «والطعام الذي أرسلوه لكم ليضحكوا عليكم».
بعد هذه الجلسة، بات في وسع فاظمية «الحسم» مع شقيقتها: «لا تخافي... في لبنان سيّد حسن. لن يحصل لنا شيء»، وتقول للمدام بعد أن تضع السماعة: «ما بدي روح على سريلانكا، هونيك في حرب مثل لبنان».
تسرّ السيدة لسماع هذه الجملة، وتتحمس لرسم خريطة فلسطين، وتروح تشرح لفاظمية كيف طردت العصابات الصهيونية الفلسطينيين من بيوتهم أولاً... وكيف احتل الأميركيون العراق ثانياً.

يدخل نادر إلى الغرفة حاملاً خبراً عاجلاً لم تورده شاشات التلفزة بعد: «الرئيس العراقي طلب من رعاياه الموجودين في لبنان مغادرته والعودة إلى العراق». يُتبعه بسؤال: «تُرى هل سيلحق به قريباً الرئيس الفلسطيني...».
نكتة... قد تضحك أحدهم، لكنها غالباً ما تبكي كثيرين على عادة النكات الأخيرة المنتشرة في لبنان منذ الحرب الإسرائيلية في تموز 2006.
الناطور العراقي، اللاجئ في أحد مباني الضاحية الجنوبية، لن يضحك لهذه النكتة. سينتظر زوجته لتنهي مسح درج البناية ليخبرها إياها. وسيذكّرها بعملهما السابق في العراق، هو مهندس مدني وهي مشرفة اجتماعية في ثانوية للبنات. يجول بعينيه في أرجاء الغرفة الصغيرة التي منّ عليه بها سكان البناية، ويقارنها ببيته الواسع في أحد أشهر شوارع بغداد الجميلة.
يتذكر ما قالته له مخرجة لبنانية تعدّ فيلماً وثائقياً عن اللاجئين العراقيين في لبنان. «لا دراما في قصتك»، هي العبارة التي اعتذرت فيها عن عدم اختياره شخصية رئيسية في الفيلم. لا دراما في قصته، بعد أن نجا أكثر من مرة من عمليات تفجير، أما أقاربه الذين استشهدوا هناك، فلا صور لهم تسمح بالحديث عنهم «ماذا سأقول للمشاهد من دون صورهم؟»، سألته المخرجة.
لم يجبها. كان يودّ أن يخبرها الكثير مما يرغب في قوله للعالم. يفيض وجهه بالرغبة في البوح عن ألم يسكنه. يهمّ بالقول: «الحرب ستجعلكم مثلنا، لاجئين وفاقدين كل امتيازاتكم»، لكنها كانت تغادر. في الخارج «دراما»، شاب عراقي فقد أفراد عائلته.
يسمع المخرجة الباحثة عن دراما تسأل مواطنه المفجوع: «كم عددهم؟ هل لديك صور؟ كان بينهم أطفال؟».

«المنفيّ» الفلسطيني لن تضحكه تلك النكتة أيضاً. أن يطلب الرئيس الفلسطيني من رعاياه الموجودين في لبنان العودة إلى... «الوطنهذه ليست نكتة؟ هذا سمّ»، يقول الفلسطيني. هو لم يعد لاجئاً كما غيره من أبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان، بل هو مواطن دنماركي يحمل جنسية يحسده عليها الكثير من اللبنانيين. بإمكانه اليوم أن يشتري بيتاً لوالدته خارج المخيم، وأن يعمل من دون منّة ربّ العمل الذي «يخاطر» بتوظيفه مخالفاً القوانين اللبنانية.
اليوم صار يملك تعريفاً للوطن يختلف عمّا تعلّمه في المدرسة: «وطني حيث أشعر بإنسانيتي» يقول. هو لم يعد يتردّد في الاعتراف بصوت عال بأنه لا يرغب في العودة إلى فلسطين «التي لا أعرفها»، وفي سرد تفاصيل مهينة لسلوك كثير من اللبنانيين معه «قبل ذلك لم أشعر بأنه كان بإمكاني سردها. هنا في لبنان حيث ولدت ولعبت وكبرت لم أشعر يوماً بإنسانيتي. في الدنمارك، أنا كائن مختلف. أنا إنسان».
تسمعه أمه، فتجبر نفسها على التوقف عن متابعة الصور الآتية من غزة، وتخرج غاضبة إلى مدخل البيت المتواضع في المخيم. «أي إنسان أنت وأهلك يذبحون؟ من قال لك إني أريد بيتاً هنا؟».
توجه كلامها إلى اللبنانية الزائرة: «لا تصدقيه. سيتغيّر، أنا أعرف كيف ربيته، لن يبقى على هذا الرأي طويلاً»، ثم تعود لتقول له: «يا أمي، فلنعد إلى فلسطين أولاً، وبعدها نحن من يقرر أين نريد أن نبقى».
يقول غاضباً: «يا أمي، أنا لا أعرف فلسطين هذه التي تعرفينها. لا أعرف الأراضي التي تملكينها ولا الدار الكبيرة التي كنت تقيمين فيها. أعرف علبة السردين هذه، ونعمة الله أبي نصر الذي يهدّدني ليل نهار».

«سعر الشقق ارتفع في الضاحية، إلا في منطقة بعجور. يجب أن تدمر إسرائيل هذه المنطقة في الحرب المقبلة».
كانت نكتة «بايخة» لكنها لقيت صدى لدى أم وسام التي وضّبت حقيبة صغيرة وضعت فيها أبرز ما تستلزمه رحلة الهروب المقبلة. «مجوهرات البنات، الأوراق الرسمية، بعض الصور... لم أضع الكثير من الثياب. فقط الضروري».
ابنها المقيم في فرنسا محتار في طريقة تتيح له الحصول على تأشيرات سفر لأهله «لأن الحرب ستقع مهما تأخرت»، يقول لوالدته كلما اتصل بها.
تخبره أن صديقه الفرنسي جيروم لم يغادر لبنان بعد، كان يزورها قبل أيام وأخبرها أن سفارة بلاده لم تدفعه إلى ذلك، لكنها تعطيهم نصائح باتخاذ عدد من تدابير الحيطة، وتمنعهم من ارتياد أماكن معينة. هو لم يقل لها ما هي الأماكن التي ينصح بعدم ارتيادها، لكنها فهمت منه أن الضاحية إحداها، «عندما سألته أجابني: ليس مهماً ما يقولونه لي، المهم أني أذهب إلى الأمكنة التي أريدها».
يسمع وسام كلّ حكايات أمه، لكنه يصرّ في ختام اتصاله الهاتفي: «أقنعي أبي بأن يقدّم طلب فيزا، اسألوا ما هي الدول التي يسهل الحصول على تأشيرات سفر إليها... اسمعي مني».


الرعايا السعوديون ممنوعون من السفر إلى لبنان و...؟
«نصائح إلى المسافرين» خدمة متوافرة على معظم المواقع الالكترونية لوزارات خارجية كثير من الدول. غالباً ما تقدّم هذه الخدمة مختصراً عن الأوضاع الأمنية التي تسود بلداً ما، والأخطار التي قد تهدّد من يسافر إليها.
ولوقت طويل، كانت الولايات المتحدة أبرز الدول التي تحذّر رعاياها من السفر إلى دول معينة، لأسباب سياسية أو أمنية. في المقابل، كانت السعودية واحدة من أبرز الدول التي تحذّر أميركا مواطنيها من وجودهم على أراضيها، كذلك كانت تفعل بريطانيا
وأستراليا...
الجديد هو أن السعودية هي اليوم التي تحذّر رعاياها من السفر إلى دول أخرى، أو أكثر تحديداً، إلى دولتين فقط... نعرف طبعاً أن لبنان هو الدولة الأولى منذ 18 شباط ــــ فبراير الفائت، وقد وصل حد «التحذير» إلى ترحيل الرعايا قبل ثلاثة أيام.
لكن من هي الدولة الثانية؟
زائر الموقع الالكتروني لوزارة الخارجية السعودية يمكنه النقر على خانة «إرشادات وتحذيرات السفر» التي تشدّه إليها بسبب ضوئها الذي يتغيّر بين الأحمر والرمادي. في هذه الخانة، تكتشف أن البلد الثاني هو سريلانكا، وأن التحذير من السفر إليها وضع في 22 شباط ـ فبراير الفائت.
لكن لحظة، لا تحزنوا كثيراً أيها اللبنانيون. لقد راعت المملكة «المقامات» فأوجدت فارقاً جوهرياً بين التحذيرين. في لبنان، إنها وزارة الخارجية شخصياً التي تحذّر الرعايا من السفر. أما في سريلانكا، فإنها «سفارة خادم الحرمين الشريفين في جمهورية سريلانكا».
«المعتزون» بلبنانيتهم، يمكنهم فهم هذا الفارق على أنه «حرص على المقامات»، ولغيرهم من اللبنانيين يمكن الأمر أن تجد له تفسيراً آخر...