نقولا ناصيفأعادت حرارة السجال على قانون الانتخاب إقفال الأبواب تماماً في وجه احتمالات حل الأزمة اللبنانية قبل موعد الجلسة الجديدة لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية في 11 آذار. كذلك استعادت حرارة السجال هذا بعداً آخر في الأزمة، هو الخلاف على بند لا يدخل في الاشتباك السياسي السعودي ـ السوري، ولا في توازن قوى داخلي تتسابق على ترجيح كفته المحاور الإقليمية، من أجل تأكيد الجانب المحض لبناني في النزاع الناشب بين قوى 14 آذار والمعارضة. وهو مؤشر تكتنفه شكوك وتكهنات غامضة حيال ما قد يتفق عليه الخارج لإمرار حل الأزمة، ومدى مقدرة الأفرقاء اللبنانيين على الوقوف في طريق هذا الحل من خلال ملفات لبنانية داخلية كقانون الانتخاب في أبسط الأحوال.
مع ذلك، فإن سلسلة انطباعات أشاعها مسؤولون رسميون في الساعات الأخيرة عن جهود إيجابية لإنضاج حل داخلي، لم تعدُ كونها جزءاً من الصراع السياسي نفسه. لم تعد المبادرة العربية في واجهة الحدث والانشغال العربي، بل انعقاد قمة دمشق. ولا انتخابات الرئاسة اللبنانية، بل جدول أعمال القمة العربية. ولا مصالحة اللبنانيين في ما بينهم ومساعدتهم في تأليف حكومة وحدة وطنية، إنما سبل انتزاع ورقة غزة من يد سوريا في قمتها على أرضها إذ تريد جعلها مدخلاً إلى قمة ناجحة بحمل الزعماء العرب على مناقشة هذا الموضوع لا التذرّع بمقاطعة القمة.
تبعاً لذلك، على أبواب ما ينتظر العاصمة السورية في نهاية هذا الشهر، بدءاً من اجتماعات وزراء الخارجية العرب اليوم في القاهرة، فإن اللبنانيين صاروا في مكان والعرب الآخرين في مكان.
على أن السجال المستجدّ في قانون الانتخاب بعد انحسار الكلام عليه إثر انتهاء مهمة الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى في بيروت، والتعارض الحاد في مقاربته، يدفعان بالتسوية المحتملة إلى تأجيل مفتوح لأسباب ثلاثة على الأقل:
أولها، إحكام الربط بين البنود الثلاثة في المبادرة العربية على نحو بات يحتّم الاتفاق الناجز عليها، كاملة وبتفاصيلها الدقيقة، قبل الانتقال إلى آلية التنفيذ بنداً بعد آخر.
بذلك أضحى المطلوب ليس الاتفاق المبدئي على قانون الانتخاب وتحديد إطار تقسيم الدوائر الانتخابية، بل بتّ هذا التقسيم واعتباره في صلب صيغة التسوية. تالياً أصبح التوافق على قانون الانتخاب يوازي التوافق على انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وتوزيع الحصص في حكومة الوحدة الوطنية.
ومع أن قانون الانتخاب نُظِرَ إليه في الأسبوعين المنصرمين على اعتبار أنه مشكلة زائدة تثقل على التسوية، وعبء تناوب على افتعاله هذا الطرف أو ذاك، إلا أنه أضحى الآن مشكلة أساسية من جراء موقف كل من طرفي النزاع منه بوصفه الوسيلة الوحيدة المتاحة لحسم صراعه السياسي مع الآخر. تريد الموالاة قانوناً يحافظ على الغالبية التي تسيطر بها على مجلس النواب. وتريده المعارضة سبيلاً إلى إنهاء تلك الغالبية.
ثانيها، أن الخلاف على قانون الانتخاب يتخذ منحى مقلقاً بفعل الانقسام والتباعد بين الفريقين المسيحيين في الموالاة والمعارضة، ناهيك بدخول بكركي على خط هذا السجال وتأييد البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير وجهة نظر مسيحيي قوى 14 آذار، بالتخلي عن قانون 26 نيسان 1960، والمطالبة بدائرة انتخابية أصغر من القضاء. ولعل المفارقة في الأمر أن هذا الفريق إذ يأخذ على مسيحيي المعارضة مطالبتهم بقانون 1960 من أجل إعادة البلاد 48 سنة إلى الوراء، فإن مناداة مسيحيي 14 آذار بدائرة أصغر من القضاء تعيد البلاد 55 عاماً إلى الوراء لاستعادتها تجربة الدائرة الفردية التي أقرّها قانون 1953، وعدّلها جزئياً قانون 1957، في عهد الرئيس كميل شمعون. تالياً يراكم الانقسام المسيحي، والماروني تحديداً، حيال حجم الدائرة الانتخابية، العقبات في طريق أي تفاهم على قانون الانتخاب قبل الخوض في الجوانب الأخرى من التسوية.
ولعلّ المثير في الأمر أن الطرفين المسيحيين، في الموالاة والمعارضة، قادا منذ عام 1992، بتفاوت ملحوظ، معركة الإصرار على قانون 26 نيسان 1960، وصولاً إلى انتخابات 2005 التي حملت البطريرك على القول، غداة انتهاء العمليات الانتخابية، إن 15 نائباً مسيحياً فقط من النواب المسيحيين الـ64 انتخبهم المسيحيون ومثّلوا إرادة ناخبيهم. وهم في واقع الأمر نواب المتن الـ8، ونواب كسروان الـ5، ونائبا جبيل. حينذاك لم تكن الجرة قد انكسرت تماماً بين بكركي والرئيس ميشال عون، ولم يكن بعض المسيحيين الموالين قد اكتشفوا صراحة أنهم استمدوا قوتهم من رزمة الغالبية التي تمثلها قوى 14 آذار بالكفة السنّية والدرزية الراجحة والمنضوية في ما مضى في التحالف الرباعي، إلا بعد الانتخابين الفرعيين في بعبدا (2006) والمتن الشمالي (2007). فقالوا بتصغير القضاء دائرة انتخابية إلى قضاء فوقا وقضاء تحتا...
ثالثها، أن السجال على قانون الانتخاب يفتح باباً أوسع على خلاف مذهبي أكثر تعقيداً والتباساً واستبعاداً للحلول.
في واقع الأمر ثمة طائفتان متوترتان هما: السنّة الخائفون على زعامتهم الحاكمة وعلى صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، والشيعة الخائفون على سلاح حزب الله وموقعهم الفاعل في معادلة الحكم. في المقابل لم يعد لدى المسيحيين ما يخسرون بعدما أدمنوا الانقسام والتباعد، وباتوا يبحثون عن نظام انتخابي يحتمي بالحدّ الأدنى الباقي من التحالفات. مع ذلك فإن المطالبة بدوائر أصغر من القضاء تعيد الحوار السياسي على التسوية إلى ما دون الصفر. ذلك أن رئيس المجلس نبيه بري ـ ومعه حزب الله ـ جزم بحجم دائرة تبدأ بالقضاء ـ لأن البطريرك كان يريده هكذا ـ ذهاباً إلى دائرة أوسع. ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط، الصامت حيال السجال الحالي، يميل إلى دوائر حدّها الأدنى القضاء الحالي والأقصى الشوف الكبير الذي يجمع الشوف وعاليه وبعبدا في دائرة واحدة، أو في أبسط الأحوال إخراج عاليه من دائرة تأثير الصوت الشيعي المرجّح في بعبدا وإلحاقها بقضاء الشوف. لكنه لا يريد استعادة تجربة والده كمال جنبلاط في الدائرة الفردية في انتخابات 1957، إذ أسقطته، فحملها ذريعة إضافية إلى «ثورة» 1958.
كذلك الأمر بالنسبة إلى رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري الذي يطمح إلى بيروت دائرة انتخابية واحدة لا تستعيد تجارب الدوائر الفردية التي جعلتها انتخابات 1953 خمس دوائر، وانتخابات 1957 دائرتين مختلطتين (أولى زاوجت الناخبين السنّة والموارنة والروم الأرثوذكس والأرمن، وثانية الناخبين الشيعة والموارنة والسنّة).
لكن مغزى الانقسام المذهبي حول دائرة انتخابية تصغر عن القضاء، يفتح باب السجال في شأن مصير ما نصّ عليه اتفاق الطائف، إذ تحدّث عن المحافظة ـ لا القضاء ولا أصغر منه ـ دائرة انتخابية بعد إعادة النظر في التقسيم الإداري. وبدا المقصود بذلك دائرة انتخابية ترجّح تقسيماً أصغر من المحافظة الحالية وأكبر من القضاء.