فيصل القاقلماذا هذا الانتشار الواسع للمرض؟
يعود السواد الأعظم لإصابات سرطان عنق الرحم إلى فيروس الورم الحليمي (HPV) الذي ينتقل عبر علاقات جنسية غير محمية وغير مألوفة بين شركاء يجهلون أنهم مصابون، أو لغياب العوارض أو الفحوص الدورية. وتشير الأبحاث إلى وجود نحو 100 نوع من فيروس HPV. منها ما يسبب ازدياداً في مخاطر الإصابة بالسرطان كنوعَي 16،18 على سبيل المثال، ومنها ما يسبب إصابات بالثآليل كنوعي 6 و11. ثآليل قد تظهر على مجمل الأعضاء التناسلية للذكر والأثنى، إضافةً إلى فتحة الشرج ومواضع أخرى. وغالباً ما تنحسر الثآليل أو تختفي تماماً، ليبقى نحو 10 إلى 20% من الإصابات المزمنة التي تزيد معها مخاطر الإصابة بسرطان عنق الرحم مع مرور الزمن. هنا تبرز أهمية اللقاح كوسيلة جدّ فعالة لمنع مختلف الإصابات من أنواع الفيروس العديدة، وليعطي أملاً كبيراً في التخفيف من إصابات سرطان عنق الرحم.
ما هو هذا اللقاح العجائبي؟!
إنه ليس الفيروس نفسه ميتاً أو مخففاً كعادة معظم اللقاحات. بل هو استنساخ لجينات الفيروس بأنواعه العديدة بغية إنتاج ذرّات شبيهة بالفيروس ذاته (Virus-Like particles)، وبالتالي لا خوف من مسألة الإصابة بالثآليل أو السرطان بعد أخذ اللقاح لكونه لا يحتوي على الفيروس. وقد أكدت الدراسات العديدة والمكثفة على قدرة اللقاح في تفعيلٍ عالي المستوى لجهاز المناعة ومضادات الأجسام للفيروس بما يؤمّن حماية أكبر وتحصيناً منيعاً تصل نسبته الى 100%.
عملياً هناك لقاحان للاستعمال العيادي: لقاح رباعي مضادّ لأربعة أنواع من الـHPV (6، 11، 16، 18) التي تسبب ثآليل وإصابات سرطانية. واللقاح الآخر ثنائي مضاد لنوعين من الـHPV (16،18). وفي لبنان يتوافر اللقاح الرباعي، وهو قيد الاستعمال في الوقت الحالي حيث يُعطى بمعدل ثلاث جرعات على شكل إبرة بالعضل في الكتف في اليوم الأول، بعد شهرين، وبعد أربعة أشهر، ضمن فترة ستة أشهر كاملة. وحالياً يُعطى اللقاح للإناث بين عمر 9 ـ 26 سنة بحسب الدراسات، وبحسب توصيات مركز ضبط الأمراض في جورجيا (CDC)، لكنه قد يصل إلى عمر 35 سنة بحسب ما يتوافر من أبحاث جديدة.
هناك أمران جديران بالملاحظة، الأول يرتبط بالجرعات الثلاث (لا جرعة واحدة) التي تؤدي إلى استمرار ارتفاع مستوى المناعة والحصانة لخمس سنوات على الأقل. أما الأمر الآخر، فمرتبط بالشريحة العمرية التي قد يُدهَش البعض من صغر سن الملقَّحات (9 ـ 11 سنة كحدّ أدنى) ذلك أن إعطاء اللقاح في سن مبكرة من بدايات المراهقة يولّد مناعة أعلى ووقاية تسبق مرحلة بدء العلاقات الجنسية التي قد تقع في عمر 16 ـ 18 سنة.
أما بالنسبة إلى العوارض الجانبية، فاللقاح آمن بشكل ملحوظ، عدا عوارض خفيفة متناثرة من الحمى البسيطة وما يشبه الزكام. فيما يؤمن اللقاح، إلى جانب منع الثآليل والسرطانات منعاً باتاً، فوائد إضافية مضادة لأنواع أخرى من الـHPV بما يخدم الناشطين جنسياً ومتعدّدي الشركاء الجنسيين. لكن استخدام هذا اللقاح لا يلغي أبداً الروتين الدوري لإجراء فحص المسحة المهبلية (فحص القزازة PAP Test) الذي يبقى الفحص الأساسي والأول للكشف المبكر عن إصابات عنق الرحم الماقبل سرطانية والسرطانية، والذي أنقذ مئات الآلآف من النساء، كما أنه يجب عدم اعتبار هذا اللقاح علاجاً في أي حال من الأحوال.
«ما لا يُدرك كله لا يُترك جُلّه»... لذلك يستمرّ العمل القائم حالياً بين مختلف المجموعات العلمية لإيجاد بروتوكول موحّد وتوصيات للتلقيح، وليتزامن معه التأكيد على توفير الإجراءات الطبية الدورية لكل النساء والسلوكات الوقائية كالإخلاص لشريك واحد، الالتزام بالجنس المأمون، عدم التدخين، والسعي دوماً إلى إتاحة خيارات وبدائل تمكّن كل الأفراد من الحصول على نوعية خدمات ترفع من مستوى الصحة والسلامة.
* طبيب وباحث في الصحة الإنجابية (الجنسية)
كلية العلوم الصحية ـ الجامعة الأميركية.


... وتحديات انتشاره
يواجه انتشار هذا اللقاح، الذي بدأ يُستخدم في لبنان منذ منتصف العام الفائت، بعض التحديات التي يرتبط أبرزها بخصوصية الواقع اللبناني. فقد يتحفظ البعض على ارتباط اللقاح بالسن المبكرة للإناث وما قد يعنيه ذلك من «تشجيع» العلاقات الجنسية. هنا يُفنّد الخبراء أن اللقاح هو للوقاية من سرطان عنق الرحم الذي يحدث جرّاء علاقات جنسية غير محمية في أطر مختلفة داخل الزواج وخارجه، وبواسطة أشخاص يجهلون الإصابة أولاً ولا يُظهرون عوارضها. أي إنه لا علاقة للأمر بسلوكيات الأشخاص التي ترتبط بمحدّدات متعددة ومختلفة ثقافياً واجتماعياً وتربوياً. يُفضي ذلك إلى وعي أهمية التثقيف وإشراك الأهل وتأمين الالتزام بالجرعات الثلاث للقاح ومتطلباته المادية (ما يقارب 900 ألف ليرة لبنانية).
أما التحدي الآخر الذي لا يقل أهمية، فمرتبط بأثر اللقاح على الصحة العامة. بمعنى أنه إذا كانت مجمل إصابات سرطان عنق الرحم تحدث في العالم الثالث (أو النامي) من جرّاء التخلف والفقر وغياب الرعاية الصحية والفحوص الدورية، فكيف للقاح أن يصل إلى تلك الفئات المحرومة والمهمشة من النساء بقصد حمايتهن؟! وخصوصاً في ظلّ غياب تبنًّ شامل من جانب وزارات الصحة أو غيرها من البرامج الصحية، وفي ظل تكلفة مادية قد لا يقدر العديدون على تلبيتها!.