strong>«بابل أساطير وحقيقة» هو عنوان المعرض الأول من نوعه عالمياً، الذي سيفتح أبوابه في متحف اللوفر في 13 من الشهر الجاري. المدينة التي أعطت للحضارة الإنسانية شكلها الحالي غلبت على دراساتها «لعنة التوراة» قبل أن تُصدر دراسات حديثة تبرز حقيقة تاريخها
باريس ـ بسّام الطيارة
كثيراً ما كان السؤال يتردد: هل من المعقول أن مدينة بابل وحضارتها وما تمثله من عطاءات للإنسانية لم تحظَ حتى اليوم بأي مظاهرة ثقافية تسلّط الضوء على هذه الكنوز العالمية؟
متحف اللوفر الذي «يملك» مجموعة فريدة من القطع النادرة التي تعود إلى الحضارة البابلية قرر أن «يضرب ضربة كبيرة» كما تقول بياتريس أندريه سالفيني رئيسة قسم الأثريات الشرقية في المتحف. فنظم المعرض الذي يضم، إضافةً الى مجموعته، تحفاً مستعارة من 13 دولة، فكانت النتيجة: ٤٠٠ قطعة ووثيقة تخبر تاريخ بابل وإرثها الحضاري.
المعرض يعتمد على مقاربة «مختلفة قليلاً» عن المقاربات التأريخية الكلاسيكية للحديث عن بابل وحضارتها وتأثيرها على الحضارات العالمية. إذ إنه لجأ إلى دراسات تبتعد عن «القراءات التوراتية» أو التاريخ القديم المسطور منها، وتعتمد بشكل أساسي على التحليل الجديد «لوثائق» كُتبت على ورق البرديّ أو على لُويحات كتبت باللغة المسمارية، وعلى دراسة التماثيل والمسلات والمجوهرات لإخراج تاريخ المدينة. وإضافةً إلى المعرض، يستضيف اللوفر أيضاً مجموعة من الأساتذة والمختصين ليسهموا في نشاط يرى فيه المراقبون احتفالاً فريداً بحضارة مهمة.
وقد انصبّ اهتمام المنظمين أيضاً على توثيق الدور الذي أدّته حملات التنقيب في بابل وجوارها لإخراجها من دائرة النسيان وإبرازها منذ القرن السابع عشر حتى يومنا هذا. وسوف يلاحظ الزوار أن أبرز ما يهتمّ به في المعرض هو «الإرث» الذي تركته بابل للحضارات المعاصرة، ولا يتردد بعض المنظمين عن الحديث عن «الرابط المباشر بين حضارة بابل والحضارة الغربية».
حضارة ساطعة
ويؤكد المشرفون على المعرض أن التنظيم سوف يوجه إضاءة استثنائية إلى جوانب «المدينة بابل» من تاريخ إنشائها إلى زمن انهيارها مروراً بعهد سطوع إشعاعات قوتها الحضارية حين كانت «أكبر تجمع حضري عمراني في العالم». ويقول أحد منظمي المعرض إن بابل لم تتغير على مر العصور القديمة وحافظت على نكهة خاصة منذ العصر الأكدي (من٢٣٥٠ إلى ٢١٥٩ ق.م.) حتى عهد نبوخذ نصر «الملك المعماري» (من ٦٠٥ إلى ٥٦٢ ق.م.) وهي الحقبة التي وصلتنا منها كلّ المعلومات المتعلقة بالعهود السابقة.
ويتفق علماء الآثار على أن انطلاق الحضارة البابلية بدأ في الحقبة الواقعة بين زوال سلالة أور الثالثة (حوالى ١٩٥٠ ق.م.) ونهاية سلسلة بابل الأولى. فيما بدأ نجم «العاصمة بابل» بالتألق كأعظم مدينة في العالم القديم، ويصادف ارتفاع نجمها وصول أعظم ملوكها وسادسهم حمورابي (١٧٩٢ - ١٧٥٠ ق.م.) الذي اشتهر بقوانينه التشريعية وسطّرَها على «مسلته» الشهيرة ... الموجودة اليوم في متحف اللوفر بالتحديد.
وفي ذلك العصر الذي انتشرت فيه الكتابة المسمارية واللغة البابلية لتصبح لغة التواصل بين الأقطار في محيط بلاد ما بين النهرين، بدأت العلوم والمعارف مثل الرياضيات والفلكيات بالانتقال عبر سوريا والأناضول إلى اليونان. ويرى المؤرّخون أن سبب إشعاع بابل كان هذا «التكاتف العلمي» فيها الذي اعتمد على نظام «الكَتَبة» (scribe) الذين كدّسوا المعارف وحافظوا عليها بشكل «معجمي» وطوروها بشكل جعل من بابل «مفترق الطرق القديمة».
بين القدس وبابل
الطريقة العلمية المتبعة في معرض اللوفر يغيب عنها شبح «أسطورة بابل المدينة المنبوذة» التي حملتها إلينا بعض الكتابات القديمة، والتي «جعلت المواجهة بين القدس وبين بابل» هي معلم الدخول إلى معرفة بابل وبلاد ما بين النهرين. ذلك أنّ احتلال وسبي نبوخذ نصر ملك بابل للقدس ونفي يهودها، جعلا من البابليين «أعداءً حضاريين» لبابل، وخصوصاً أنهم كانوا يؤمنون بإله واحد ما جعل «لكراهيتهم لحضارة بابل» بعداً دينياً لم يغب حتى سنوات قريبة عن كل دراسة أو حدث يتعلق بها.
كما يلفت بعض المؤرخين إلى أن دفع سبايا القدس ومنفييها للعمل في بناء «برج بابل»، رأى فيه اليهود تحدياً للإله مع تعدد للغات يناقض مفهوم «لغة الرب» التي كانوا ينعتون بها اللغة العبرانية. ومن هنا، إضافة إلى الشائع عن الانحلال الذي عاث فساداً داخل المدينة، نجد الكره الذي صبغ النظرة إلى «برج الكبرياء» كما تصفه بعض الكتابات التوراتية. وهو ما يفسر «الفرحة» التي رافقت سقوط الإمبرطورية البابلية بعد خمسين سنة من نهب القدس وما رأى فيه البعض «انتقاماً إلهياً».
إلا أن تأثير ونفوذ بابل داما عقوداً بعد انهيار الإمبرطورية التي شهدت موت اسكندر الكبير المقدوني داخل جدرانها المتهاودة. وقد بقيت حتى ما بعد الميلاد «حافظة ذاكرة» حضارات ما بين النهرين، وتعود آخر لويحة مكتوبة بالخط المسماري إلى عام ٧٤ ميلادية.
إلى جانب إبراز الجانب الحضاري و«العاطفي» الذي تثيره الحضارة البابلية لدى الزوار، فإن المعرض سوف يحوي عدداً من الرسوم التي «تحكي» أساطير بابل. والرمزية الخرافية الموجودة وقد عمد منظمو المعرض إلى جعل جولة المعرض شبيهة بـ«زيارة بابل» مع التوقف على «أمور واقعية» كان لها دور تأسيسي في تشكيل «روح بابل» العمرانية وتحمل تفسيرات لها.