strong>جوان فرشخ بجاليإنها بابل. مدينة تخطت أسطورتها الزمن والأيام وبقيت في الذاكرة الجماعية للإنسانية مركز قوة وحضارة لا تموت حتى لو اندثرت. وبقيت الأساطير تروى عن بابل وبرجها لقرون مضت. فهي مدينة يهمس باسمها الحكام المصابون بجنون العظمة من إسكندر المقدوني الذي دمر برجها ليعيد بناءه على اسمه فمات على أدراجه، إلى صدام حسين الذي أعاد تشييد قصورها ليخلد اسمه في التاريخ.
ولإعادة تشييد القصور قصة بدأت بين عامي 1986 ـ 1987، حين قرّر ديوان الرئاسة في العراق إقامة مهرجان عالمي يدعى إليه كبار الفنانين في العالم لإظهار العراق مشرقاً غنياً، فكانت فكرة مهرجان بابل الدولي. لكن المشكلة كانت أن بابل المدينة الأسطورة في التاريخ مبنية من الطين، ومتى تعرّض الطين للهواء والشمس يتفتت ويصبح غباراً. بابل إذاً موقع أثري لا يمكنه أن يتحمل عبء المهرجان. وجاء الحل عبر فكرة نيّرة: إعادة إعمار بابل. مشروع إعادة الإعمار هذا لقي كل الترحيب من الرئيس العراقي صدام حسين حتى أصبح على مستوى مشروع دولة. يقول دوني جورج، المدير العام السابق للهيئة العلية للآثار والمتاحف في العراق، «طلب مني في حينها أن أتوجه الى بابل لكي أشرف على ورش العمل المطلوب أن تسير بسرعة. فتوجهت، وأدرت العمل هناك لأشهر طويلة. المطلوب كان إعادة إعمار قصر الملك نبوخذنصر والمدخل الجنوبي للمدينة. بالطبع كنا نعرف أن تلك الخطوات لا تتماشى مع مبادئ علم الآثار وترميم المواقع الأثرية. فنحن كنا نعيد بناء مدينة ميتة فيما تسمح التشريعات الدولية بإعمار 5% من الموقع فقط. لكن، في تلك الفترة الخيار لم يكن مطروحاً والمناقشات بالأساليب والطرق لم يكن مسموحاً بها قطّ، وهذا ما عشته شخصياً في بابل. فحينما كنت على الموقع، سمعت يوماً هدير طائرات الهليكوبتر، فقلت في نفسي لقد أتى الرئيس لزيارة الموقع فتوجهت إلى المطار لملاقاته، لكن غطت الطائرات الست ولم يخرج منها إلا كبار ضباط الجيش. الرئيس لم يكن معهم، لكن طلب منهم التوجه إلى بابل. وإذا به يصل بالسيارة. بدأنا حينها الجولة على الموقع والمتحف حيث قررت أن أترجم له النصوص القديمة. وفي أحدها كان هناك كتابة تقول «أنا الإله نصّبتني ملكاً على ذوي الرؤوس السوداء». فسألني الرئيس عن معنى الجملة وقلت له في اللغات القديمة، مصطلح الرؤوس السوداء يعني أهل بلاد ما بين النهرين. فتعجب وقال هذا ليس أمراً جيداً ويجب تصحيح النص القديم. «أخطأت» حينها وأجبته لا سيدي، إن ذلك غير ممكن فالنصوص القديمة لا تمس. اعتراض لم يُجب عنه الرئيس الذي أكمل جولته، لكن خيّم السكوت على القاعة. ولم ألحظ ما فعلت حتى قال لي حارس صدام الشخصي، عبد حمود: أشكر ربك يا رجل، لو طلب لكنت قد اختفيت الآن. كيف تجرؤ وتقول لا للسيد الرئيس»!.
كلمات كان لها وقع كبير على حياة دوني جورج وهو أب لثلاثة أطفال يافعين. تصبب العرق البارد في ظهره، وهو يرشد السيد الرئيس على الموقع الأثري ويشرح له كيف يتم العمل. وحينما قال له هذا الأخير إنه «يجب أن تؤرّخ إعادة الإعمار تلك» لم يكن من دوني جورج إلا أن وافق. ثم بدأت الاتصالات بين الهيئة العامة للآثار وديوان الرئاسة لتحديد أفضل طريقة لتلبية طلب الرئيس وتأريخ العمل. وبعد مشاورات طويلة واجتماعات جمة، تقرر أن تتكرر تجربة التأريخ التي كان يستعملها ملوك بابل وهي حفر أسمائهم على بعض من أحجار البناء المصنوعة من الفخار ووضعها في البناء. ثم أجريت استشارات أخرى قبل الحصول على موافقة صدام حسين لتخرج اللجنة بقرار نحت النص الآتي «في عهد القائد المنصور بالله صدام حسين أعيد بناء هذا القصر الذي كان قد بناه نبوخذنصر». ووضع علماء الآثار تلك الأحجار الفخارية في جدران القصر الجديدة على مستوى أعلى بقليل من تلك المكتوبة باللغة المسمارية للفاتح البابلي.
يقول دوني جورج، «نحن علماء آثار ونعرف التاريخ، وتاريخ بابل لن يتوقف هنا فكما نبوخذنصر وصدام حسين، ستعرف المدينة حكاماً كثراً وسيحاول آخرون أيضاً تخليد أنفسهم في أرضها. نحن، كنا قد استعملنا القليل من «الحيلة» في مشروع إعادة الإعمار. فتلك الجدران التي ترتفع لستة أمتار هي فارغة من الداخل! يمكن هدمها بسهولة جداً ولن يتضرر الموقع الأثري من ذلك».
لكن هذا مشروع آخر قد لا يتحقق يوماً، فإعادة الإعمار تلك ليست إلا حقبة أخرى من الحقب التي تعاقبت على بابل، تماماً كحقبة الاحتلال الأميركي اليوم. الجيش «الفاتح» أعطى لنفسه حق دخول المدينة القديمة على دباباته وآلياته الحربية. وسكنت عناصره سنة وأكثر داخل أسوار مدينة بابل القديمة، كما تحوّلت باحة القصر الى مطار حربي، وحفرت خنادق في أرض مليئة بالكنوز الدفينة... احتلالهم لبابل كان بمثابة تأكيد على هيمنتهم على العراق. لكنّ الضغط العالمي أجبرهم على ترك الموقع الذي لا يزال يحمل على جدرانه وفي أرضه رواسب مرورهم، لكنهم كمن سبقوهم غادروها. فبابل هي بابل، مدينة باقية تتحدى الزمن وتولّد الأساطير من حولها.