عندما تتغير معالمالباص لتصبح على هيئة نعش. عندما تشطب المدرسة من نظامها سلامة الطالب المرورية، وتشاهد وزارة التربية الحادث، كأي مواطن عادي، ولا تحرك مفتشاً إلا بعد وقوع المصيبة. عندما يعلّق الأهل على جدار الغرفة صورة الطفل الفقيد بدلاً من شهادته. عندما يحصل كل ذلك، بماذا ينفع العلم إذا كان أولادنا مشاريع شهداء على طريقه؟

زينب السباعي
جلست والدة عبد الله بثوبها الأسود على «الصوفا»، وقد تمترست الدموع عند حدود العينين مكابرة ورأفة بهذا الوجه الشاحب. تسترق الوالدة الثكلى النظر إلى صورة ابنها المعلقة على الحائط وهو يرتدي مريول المدرسة، «التقط له عمه هذه الصورة قبل يومين من حادث وفاته. أفتقده... أزوره يومياً في المقبرة»، تقول بتأثر شديد.
في 2 شباط الماضي، عاد عبد الله كوثراني، ابن السنوات الأربع، إلى المنزل من مدرسته الخاصة في بلدة المروانية (جنوب لبنان)، وعند مفترق الطريق كان الموت بانتظاره. تشرح أم عبد الله المشهد: «كل ما أعرفه أنّ يد حقيبته المدرسية انقطعت ووقعت على الأرض، انحنى ابني ليلتقطها، لم يره السائق فصدمه». وما عجزت الوالدة عن قوله، نطقت به ابنة العم، مؤكدة أن الباص دهسه بشكل كاملصباح ذاك اليوم «المشؤوم»، فاجأ الوالدة إحساس غريب، «ذهبتُ إلى المدرسة، ومعي المنقوشة، راح ينتحب للعودة معي، قبّلتُه وعيناه الدامعتان لا تفارقان وجهي»، تقول بحسرة.
يجول شريط السنوات الأربع في مخيلة الوالدة، تبحث عن فقيدها في زوايا الغرفة، لعلّها تراه يلعب هنا أو يبتسم لها. لا تتهم أم عبد الله أحداً، وتقول: «لقد نال ابني نصيبه، ولا أريد أن أظلم أي شخص، ربما يقع الذنب على السائق أو المعلمة أو ابني، لذا لم يرفع زوجي أي دعوى قضائية. وقد أجرت القوى الأمنية تحقيقاً في الحادث، كما عقدت المدرسة اجتماعاً شددت فيه على دور المراقب داخل الباص وبدّلت السائق».
انضم عبد الله إلى قافلة التلامذة الضحايا الذين لامس عددهم عام 2007 الـ250 بين قتيل وجريح، نتيجة الحوادث داخل المدرسة وخارجها أثناء التنقّل في الباص. وهذه الحصيلة مرشحة للتفاقم في حال لم تتخذ الإجراءات اللازمة، فضلاً عن أن المدارس لا تفيد أحياناً عن الإصابات داخل حرمها أو خارجه، حرصاً على سمعتها.
عريضة وقائية
قاد هذا الرقم المرتفع اللجنة اللبنانية للوقاية من الحوادث المدرسية (اللاسا) إلى التحرك، ودعوة 250 ألف لبناني إلى التوقيع على عريضة ذات مفعول وقائي لتقليل عدد الحوادث المرورية. ويشدد عضو «اللاسا» شربل علاّم على شمولية العريضة، لأنها تتوجه إلى المعلمين والطلاب والمديرين والأهالي والنواب والوزراء، لافتاً إلى أنّ اللجنة جمعت حتى اليوم نحو 33 ألف توقيع.
وتسعى اللجنة منذ عام 2005 إلى رفع مستوى السلامة العامة داخل المؤسسات التعليمية. ويوضح علام أنّ الحملة مستمرة منذ أكثر من شهر، للفت انتباه الوزارات المعنية والمدارس الرسمية والخاصة باتجاه تحسين سبل الوقاية. «فالمدارس تهتم عادة بالجانب الأكاديمي وتغفل عن سلامة تلامذتها، وفي حال تجاوبت معنا يكون اهتمامها موسمياً»، على حد تعبيره.
مرسوم غائب ورقابة مغيّبة
لا تلتزم معظم المدارس الشروط المتعلقة بوسائل نقل الطلاب، إن من حيث خضوع السائق للفحص الطبي المرافق لدفتر قيادة المركبات الثقيلة، أو الصيانة الميكانيكية، وضرورة وجود مراقب مسؤول داخل الباص. وفي هذا المجال، يشرح علاّم أنّ القوانين متوافرة، لكنها تفتقد إلى التطبيق، فالتقصير واضح وكبير، سواء من الوزارات المتقاعسة عن الرقابة والمتابعة الدورية، إلا نادراً، أو من بعض المدارس المُهمِلة.
وإذ يوافق رئيس مصلحة التعليم الخاص في وزارة التربية عماد الأشقر علاّم الرأي، يؤكد أن العمل جار لإصدار مرسوم تفصيلي يُلزِم المؤسسات التعليمية، «فالمادة الرابعة من قانون 551 تشترط تطبيقه بموجب مرسوم، والوزارة تعمل بديناميكية للإعداد لهذا المرسوم بالتعاون مع قانونيين ومع الجمعيات الأهلية والوزارات المعنية والسلطات المحلية للوقوف عند اقتراحاتهم».
ويوضح الأشقر أن «المادة السادسة من القانون 136 تعطي الحرية للمدرسة في اختيار وسيلة النقل، ولكن عليها أن تلتزم النص القانوني عند صدوره، وأي عقد توقعه مع شركة خاصة للنقل يجب أن يتضمن بنود هذا النص».
أما الدور الرقابي لوزارة التربية فيأتي ناقص المضمون والتطبيق، لأن الوزارة تتحرك فقط عند العلم بالحادث، ولا يتعدى نطاق الرقابة حدود المدرسة إلى باصاتها. ويرى الأشقر أن التفتيش الدوري يحتاج إلى تحضير بشري وعملي، إضافة إلى إعداد نماذج نقاط لتدوين الملاحظات عن المدرسة.
من جهته، أكد أحد الموظفين في الوزارة أنّ «معظم الحوادث تسجّل على أنّها حوادث سير، تتسلّمها القوى الأمنية والقضائية ولا تتحرك الوزارة، ومنذ 15 سنة لم نبلّغ عن أي حادث في باص مدرسي». وفيما شدّد على ضرورة أن تقوم الوزارة بجولات تفقدية على المدارس، رأى أنّ عدم المتابعة ليس إهمالاً بل نتيجة الوضعين الأمني والمادي لبعض المدارس غير المرخصة، والتي تعمل بموافقة استثنائية انتهت مدتها القانونية».
الوقاية من الحوادث المدرسية ليست منوطة بالمؤسسات التعليمية والرسمية فقط، بل تقع على الأهل ولجانهم مسؤوليات رقابية أيضاً. والعتب في كلام الأشقر كبير على الأهل الذين «استقالوا من دورهم كخفير»، داعياً إلى «الرجوع إلى لجان الأهل كصلة وصل بين الأهالي والإدارة وعدم تهميش دورها، فالمراقبة يجب أن تكون مشتركة، والوعي ضروري من الأهل والإدارة والتلميذ والمراقب والسائق».
وإذ يذهب رأي علاّم في الاتجاه نفسه، يشير إلى أن الضائقة الاقتصادية قد تدفع بعض الأهالي إلى التراخي في شروط السلامة.
وقد تبلور الدور الرئيسي الذي يلعبه الأهل في «اللاسا» عبر شبكة المجتمع الأهلي، وهي تضم عدداً من الجمعيات غير الحكومية، كالصليب الأحمر والدفاع المدني ولجان الأهل في بعض المدارس... ويتمحور عمل هذه الشبكة داخل المؤسسات التعليمية بهدف تعزيز شروط السلامة المرورية.
كذلك يبدي علاّم استعداد «اللاسا» لتزويد أي مؤسسة تعليمية بخطة استراتيجية، وإقامة محاضرات مجانية لتقديم توصيات حول أسباب الحوادث وكيفية تفاديها. ويلفت إلى برنامج تدريب السائقين (BDIP) بالتعاون مع «اليازا»، «يُجري هذه الدورات خبراء اختصاصيون لتطوير مستوى القيادة لدى السائق. وهناك أيضاً برنامج يتوجه إلى طلاب الثانوي الثالث لتحسين مهاراتهم، لأن معظمهم يحصل على رخصة القيادة فور تخرّجه».
من جهته، أبدى الأشقر استعداد الوزارة لمناقشة برنامج (BDIP) «نحن جاهزون لدراسة البرنامج، انطلاقاً من مبدأ أنه يجب على السائق الخضوع للتدريب كما هي الحال مع المعلمة».
وفي ما يتعلق بعدم وجود محور يتناول موضوع السلامة المرورية داخل كتاب التربية الوطنية، أشار الأشقر إلى أن «الوزارة تعمل على تطوير المناهج وتحديثها لسدّ الثغرات، والمبادرات فردية في المدارس لرفع مستوى الوعي».