strong>أين انتهت حملة جنبلاط... ومَن يحاسب مَن في صراع مَذْهبة الأرزاق؟
لماذا أثير ملفّ بيع الأراضي فجأة، ولماذا سحب هذا الملف من التداول فجأة أيضاً؟ سؤالان تتبعهما علامات استفهام حين يتبيّن أنّ شفيق الحريري وفؤاد السنيورة وجنوبيّين محسوبين على وليد جنبلاط باعوا شركات عقاريّة وأراضي لآل تاج الدين الذين يتّهمهم جنبلاط بشراء الأراضي لتشييع كلّ الجنوب

غسان سعّود
في 22 آذار 2005، وفيما كان اللبنانيون مبهورين بتجمّعهم الاستثنائي في 14 آذار، كان الرئيس فؤاد السنيورة والنائب بهيج طبارة والسيّد شفيق الحريري (شقيق الرئيس رفيق الحريري) يتشاركون مع معاونيهم (وليد سبع أعين، عدنان دمياطي، ماهر المقدم) في إنشاء شركة عقاريّة جديدة باسم «شركة المسار للتنمية العقاريّة» (خصّصت لها لاحقاً إحدى إعلاميّات 14 آذار وقتاً طويلاً من برنامجها للتحذير من تهديدها «الوجود المسيحي» في الجنوب). لكنّ الشركة، وكما تظهر وثائق يملكها النائب في تكتل التغيير والإصلاح نبيل نقولا، خسرت في عامها الأوّل قرابة 67 مليوناً و600 ألف ليرة. وسرعان ما استقال من مجلس إدارة الشركة، في 5 نيسان 2006، الحريري (975 سهماً) والسنيورة (5 أسهم) وطبّارة (5 أسهم) ليحلّ محلهم أشقاء آل تاج الدين الأربعة: يوسف (970 سهماً)، علي (5 أسهم)، جعفر (5 أسهم) وأحمد (5 أسهم). فيما حافظ سكرتير السنيورة ماهر المقدّم ودمياطي وسبع أعين على حصصهم (5 أسهم لكل منهم).
يطرح هذا الأمر، بحسب نقولا، ثلاثة أسئلة رئيسية: أوّلها، لماذا أنشأ الحريري والسنيورة هذه الشركة وسمحا بإفلاسها. ثانيها، ماذا تملكت هذه الشركة التي حذر منها إعلام الأكثرية النيابيّة. وثالثها، والأهم، لماذا بيعت هذه الشركة إلى آل تاج الدين، مع الأخذ بعين الاعتبار علاقة العمل القديمة بين هذه العائلة الصوريّة والنائب بهيج طبّارة.
تصعيد جنبلاط
الجدير بالذكر أنّ النائب وليد جنبلاط كان قد جدّد حملته على حزب الله في العام الماضي من بوابة آل تاج الدين أنفسهم. وصرّح الزعيم التقدّمي، بعد أقلّ من ثمانية أشهر على بيع الحريري والسنيورة أسهمهما العقاريّة إلى تاج الدين، في حديث لموقع الحزب التقدمي الاشتراكي الإلكتروني في 3/1/2007 أنّ «تاج الدين يسعى لشراء مساحات واسعة من الأراضي بهدف استكمال إنشاء الدولة المجوسيّة في لبنان من خلال مستوطنات ومربّعات أمنيّة تحاصر المناطق الوطنيّة وتطوّقها بهدف الانقضاض عليها في المرحلة التالية من المفاجآت التي تعد بها قوى الظلام». وبعد يومين، تعهّد جنبلاط في حديث إعلامي آخر بالتصدّي «للمشروع المجوسيّ الذي يعتمد الأساليب الإسرائيلية في شراء الأراضي والاستيطان المنظّم». وفي الذكرى السنوية الأولى لبيع السنيورة والحريري وطبّارة شركتهم العقاريّة إلى تاج الدين، قال جنبلاط إن «وجودنا في خطر (...) عندما تبيع أية مجموعة أرضها تفقد وجودها (...) أقول للبعض الذي يبيع أرضه، أيّاً يكن، إنه عندما يبيع الأرض إنما يبيع كرامته ووجوده».
لقد أدلى جنبلاط بكلّ هذه التصريحات، رغم القطبة المخفيّة التي ظهرت أخيراً والمتمثّلة في شراكة حلفائه مع آل تاج الدين بأكثر من شركة عقاريّة («المسار» واحدة منها)، وبالتالي مساهمتهم في دعم «الدولة المجوسيّة». ويذكر مستشار أحد نوّاب حاصبيا أن جنبلاط شنّ هجومه العنيف على «المجوسيّين» على خلفية شراء تاج الدين عقاراً كبيراً في منطقة مزرعة برغل، قال جنبلاط إنها تربط الجنوب بالبقاع الغربي. وقد تبيّن لاحقاً أن هذا العقار كان يملكه المحامي أمين شمس، ابن عمّة جنبلاط، ولم يلبث أحد أقرباء شمس أن سعى، بعد الحملة الجنبلاطية، وراء تاج الدين ليبيعه أرضاً كبيرة يملكها في منطقة حاصبيا أيضاً.
وتوصل رائحة الفضائح هذه بعض مسؤولي المعارضة إلى قراءتين لإثارة جنبلاط هذا الملف. تقول الأولى إن تصعيد جنبلاط كان ظاهرياً موجّهاً ضد حزب الله، أمّا باطنه فرسالة قويّة إلى حلفائه وأبناء طائفته الذين لم يكترثوا لنصائحه ومضوا يشاركون تاج الدين السمسرات العقاريّة ويبيعون أملاكهم دون تردّد، في ظل ورود معلومات غير مؤكّدة تقول إن أكثر من 60% من الأراضي التي اشتراها تاج الدين في السنتين الماضيتين كانت تعود لأبناء الطائفة الدرزيّة (وخصوصاً في حاصبيا وعاليه).
أما القراءة الثانية، فتوازي بين إثارة جنبلاط للملف ثم القفز فوقه من جهة، وظهور السيّد خليل ياسين واختفائه من جهة أخرى. إذ يقول منسق التيّار الوطنيِّ الحر في جزين زياد أسود إن جنبلاط شغل الناس إعلامياً بهذه القضيّة، بالتزامن مع بدء الموظّف السابق في شركة أوجيرو خليل ياسين (نفوسه في منطقة كورنيش المزرعة ـ بيروت) شراء مساحات شاسعة ومترابطة من الأراضي في مربّع جزينيّ محدّد يشمل 13 بلدة في قضاء جزين، «بهدف وصل أطراف صيدا، وخصوصاً مخيم عين الحلوة بعقارات كفرفالوس (500 ألف متر مربع) التي سبق للرئيس رفيق الحريري أن اشترى نصفها وأهداه جنبلاط نصفها الآخر (وهي مرهونة اليوم لمصلحة مصرف لبنان)». ويتابع أسود موضحاً أن الأسعار الخياليّة التي تدفع لهذه العقارات (دفع أكثر من 15 مليون دولار) من قبل موظّف متواضع، تؤكد عدم وجود غايات تجاريّة أو استثماريّة من شرائها. ويشرح أسود أن تغييراً ديموغرافياً كبيراً طرأ على معظم بلدات شرق صيدا، إذ يكاد يختفي الوجود السكاني المسيحي في بعض هذه البلدات، وخصوصاً تلك المتاخمة لصيدا.
تهجير وتوطين
تطرح هذه المعطيات، وفق نقولا، علامات استفهام جديّة عن العلاقة بين هذه الظاهرة وكلام السيّد حسن نصر الله عن تواطؤ لمنع عودة الجنوبيين المهجّرين بعد إعلان وقف العمليّات العسكريّة في حرب تموز الأخيرة، تمهيداً لتوطين الفلسطينيين في هذه المساحة الشهيرة. وفي رأي أسود، تترجِم هذه المعطيات «فزّاعة التوطين» إلى أمر عملي، لا يعود معه كلام العماد ميشال عون عن الاجتماعات الإسرائيلية ـ الأوروبية لتمرير التوطين في لبنان «مجرد كلام».
وهنا، يجد نقولا مفارقة في طي سيِّد المختارة لهذا الملف بالتزامن مع توقّف ياسين عن شراء الأراضي، وكأنّ حملته هدفت إلى تحويل الأنظار عن حركة موظف أوجيرو، حتّى يتأمّن له شراء أكبر مساحة ممكنة من الأراضي دون انتباه المعنيّين الذين انشغلوا، بحكم الحملة السياسية والإعلامية على تاج الدين، بمطاردة سماسرة هذا الأخير وإعاقة عملهم. أضف إلى ذلك أنّ السجلّات العقارية تدلّ على أن آل تاج الدين لم يشتروا في قضاء جزين إلا عقارين صغيرين، وذلك قبل سبع سنوات.
وتقول مصادر معارضة أخرى إن الهدف من شراء الأراضي قد لا يكون بناء مدينة لفلسطينيّي لبنان، وخصوصاً إذا أخذ بعين الاعتبار أن الأراضي التي اشتراها ياسين تربط، وفق خرائط أسود، الشوف وإقليم الخروب ببلدات العرقوب، وترسم بالتالي خريطة جغرافيّة ـ طائفيّة (وعسكريّة ربما) جديدة، و«تصل المناطق السنيّة الجنوبيّة ببعضها البعض عبر تقطيع أوصال المناطق الشيعيّة والمسيحيّة». وهو ما يدفع مصادر حزب الله الذي يتذكر جيداً إصرار جنبلاط عليه لتملك أراض، إلى النظر بقلق كبير إلى خلفيّة ياسين، رغم اندفاع أحد نواب جزين (نائب معارض) في الدفاع عن حق ياسين بالتملك، وتحول عدد من مساعدي هذا النائب إلى سماسرة يؤمّنون لياسين الأراضي.
وفي هذا السياق، يُحمّل أسود نواب جزين جزءاً من المسؤولية، وبعض وجهائها جزءاً آخر منها. لكنه يرى أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الكنيسة، الوصيّة المفترضة على شؤون رعيتها، في ظلّ تراجع دور الدولة. ويقول أسود إنه قصد الصرح البطريركي ليشتكي من تفريغ بعض البلدات المسيحيّة من أهلها، فأجابه البطريرك بالسؤال عن دور مطران تلك المناطق ونوابها، وأبلغه رفضه الإيعاز إلى كهنة تلك المنطقة ليطلبوا من الأهالي التدقيق في أهداف من يريدون شراء أراضيهم. ويختم أسود بالتأكيد أن «الأمر لا يتعلق بالوجود المسيحي في الشرق، بل بتشجيع المسيحيين على هجرة مكان يعيشون فيه منذ عصور تحت أنظار مسؤوليهم الروحيين الذين لم يوفروا لهم الحد الأدنى من متطلبات الحياة (مستشفيات، جامعات، مجمعات سكنيّة) التي يوفرونها لرعاياهم في المناطق الأخرى». وكان المطارنة الموارنة قد لاقوا جنبلاط في منتصف الطريق في 4/7/2007 متنبّئين بأنّ يوماً ليس ببعيد سيأتي، يكون فيه اللبنانيّون أغراباً في بلدهم نتيجة بيعهم لأراضيهم. وذلك رغم أن الرهبانيّات المارونيّة والكاثوليكيّة واللاتينيّة كانت السبّاقة في بيع أراضيها في مدينة صيدا وجوارها، ما دفع الفاتيكان إلى استصدار قرار يفرض موافقته على كل عملية بيع لأراضي الكنيسة، بحسب أمين سر أبرشية صيدا السابق المونسنيور يوحنا الحلو،
إنّه السوق
هكذا، ينتهي المهتمّون بهذا الملف إلى التأكيد أنه قابل للاستغلال السياسي وإثارة الحساسيّات المذهبيّة وتخويف أبناء الطوائف، لكنّه في حقيقة الأمر ليس أكثر من حراكٍ طبيعي لسوق العقارات الذي يشهد في كل دول العالم حركة نشيطة. ويكشف أحد هؤلاء أن الرئيس نبيه بري أوفد إلى وليد جنبلاط خلال حملته ضد بيع الأراضي من يؤكد له استعداد بري أن يبيعه كل أرزاقه في بلدته تبنين وفي كل بلدة شيعيّة يشتهي جنبلاط بعض أراضيها. ويؤكد أحد الكهنة الجنوبيين أن المسيحيين لم يرغموا على البيع، ومعظمهم لاقوا تشجيعاً من قيادات روحيّة وسياسيّة تؤمن في صميمها بضرورة ترك المسيحيين لمناطقهم والتجمّع في المساحة الممتدّة بين كفرشيما جنوباً، وجسر المدفون شمالاً، وزحلة شرقاً، مشيراً إلى أن مأساة مسيحيي الجنوب وهجرتهم من بلداتهم لم تبدأ إلا بعد مغامرة سمير جعجع في حرب الشحّار، ثم مغادرة مقاتلي القوّات، تاركين الأهالي يواجهون عزّلاً المقاتلين الفلسطينيين ومن معهم.


تاج الدين مُتَّهماًوكانت وكالة «يو. بي. أي» نقلت في 12 نيسان 2007 عن صحيفة «صنداي تلغراف» تحقيقاً كبيراً عن ظاهرة تاج الدين بصفته الموفّر لحزب الله حزاماً شيعيّاً على الضفة الشمالية لنهر الليطاني.


موظف أوجيرو
خليل ياسين هو الرئيس السابق لمصلحة الشؤون الماليّة في وزارة الاتصالات. وتظهر معلومات المديريّة العامّة للشؤون العقارية أن هذا الرجل تملّك في الفترة الأخيرة في البقاع الغربي، الهرمل، بعلبك، راشيا، زحلة، وجزين التي اشترى فيها وحدها 116 عقاراً، بينها 12 عقاراً في بكاسين، 96 في بنواتي، 3 في عازور، و2 في صفاريه. فيما تقول المديرية العامّة للشؤون العقاريّة التابعة لوزارة المال إنها تتحفظ على عدد العقارات نتيجة النواقص في المعطيات التي أدخلت في ذاكرة الحاسوب، علماً بأن الـ116 هي «المناطق الممسوحة، ولا تتضمن المناطق التي لم تصدّق بعد من قبل القضاة العقاريين». وذلك في ظل معلومات تقول إن ياسين تملّك في السنتين الماضيتين أكثر من ثلاثمئة عقار في ظل قانون يوفر ثلاث وسائل للشراء عبر: التسجيل في الدوائر الرسميّة أولاً، والوكالات «الأبدية» ثانياً، وأسماء وهميّة ثالثاً، علماً بأن آخر وسيلتين تقتطعان من أمام الخزينة رسوماً كثيرة، وتمنعان معرفة هوية الشارين الحقيقيين.