strong>ليسوا مجهولين. الشباب الذين شاركوا في الإشكالات الأخيرة التي وقعت في بيروت لا يخفون شخصيتهم ولا يترددون في الاعتراف بما قاموا به «دفاعاً عن النفس»... من هم هؤلاء؟
بلال عبود ـ محمد محسن

في مناطق بيروت المحسوبة على «تيار المستقبل»، يؤكد الشباب أنهم «على الوعد»، كما تقول الأغنية الحزبية الشهيرة، «وبأمر الشيخ سعد» وجنود «أبو حسام»، بحسب ما توضح اللافتات في الأحياء والزواريب. ولا تخلو الكثير من هذه «المعلّقات» من عبارات التهديد، كما هي الحال في حي شارع الجزار المتفرّع من صبرا، حيث ترتفع صورة كبيرة للسرايا الحكومية مع عبارة «من يجرؤ فليتقدّم».
خالد، أحد شباب الحي، يقول إن الصورة «موجّهة ضد كلّ من يفكر بإلغائنا». يتحدّث الشاب العشريني عن خياراته السياسية بصوت مرتفع، وهو يختار لنفسه اسماً عسكرياً «أبو سعد»، تيمناً بالنائب سعد الدين الحريري.
لم يكمل خالد تحصيله العلمي بسبب حالة عائلته الاجتماعية، «إلا أن حظ أخي الأصغر أفضل، هو الآن في آخر سنة جامعية، والفضل في ذلك لمؤسسة الحريري». يسكن منذ ولادته في شارع الجزار الذي لا يختلف في بؤسه وحالته المزرية عن كثير من أحياء الضاحية، لكن أبناءها تحوّلوا بنظره إلى «عدوّ مفترض» و«لا يجمعني بهم شيء».
الشاب الذي يقضي سهراته ليلاً بالتجوّل على دراجته النارية والنرجيلة «لمراقبة الأجواء»، يساعد والده في عمله نهاراً بعدما توقف عن عمله كموظف أمن في الوسط التجاري منذ بداية الاعتصام، وهو يحمّل «حزب الله» المسؤولية عن بطالته.
«أهلية بمحلية»
يحتاج الوصول إلى شارع الجزار، صلة وصل أمّنها صديق يعرف شباب المنطقة. بالقرب من هذا الحي وقع الإشكال في 15 شباط الماضي بين بعض الشبان الفلسطينيين و«شباب التيار». محمود، أحد الشهود العيان، يقول إن الإشكال بدأ باستفزازات من سكان صبرا. ورغم أنه ينكر انتماءه إلى «تيار المستقبل»، إلا أن نبرته في الهجوم وإلقاء اللوم على من سماهم «مسببي الخراب»، وعلى أكاذيب إعلامهم (قناة المنار) كانت كافية لتوضيح وجهة نظره. ويرى أنّ ما قام به شباب الطريق الجديدة غير مرتبط بالفريق السياسي الموجود في المنطقة حالياً، فالمسألة «أهلية بمحلية»، لأنّ الدفاع عن النفس ليس في حاجة إلى وجود «تيار المستقبل» أو غيره.
يؤكد عبد ن. أنّ مشهد الاستنفار بالسلاح تكرّر في أكثر من مناسبة، «مع أي حدث أمني أو سياسي يبدأ الاستعداد لمواجهة محتملة»، إضافة إلى نوبات الحراسة اليومية المستمرة منذ أشهر، بشكل صار شبه طبيعي، وخصوصاً في الليل. ويُستدعى الأشخاص عند حصول الإشكال عبر الأجهزة اللاسلكية «لأنّ الهواتف الخلوية تصبح غير فعالة مع توقف الشبكات». هناك كلمات سرّ محدّدة لتحديد كيفية «النزول إلى الأرض»، مع السلاح أو من دونه، لكن الكثيرين لا يلتزمون بهذا الأمر، ودائماً يكون حضورهم مسلحاً لأنهم يريدون أن يكونوا جاهزين، أما الشيء الوحيد الغائب في هذه الليالي فهو القوى الأمنية.
أحد الشباب الذين يدرسون في جامعة بيروت العربية يقول إن مشاركته في واحد من تلك الإشكالات لم يشمل حمل السلاح، فهو كان في عداد «المجموعات المساندة»، التي تحمل العصيّ والجنازير والسكاكين وغيرها من أنواع السلاح الأبيض «التي يحضرها كل شخص بمعرفتو من المنزل أو من عند الحدادين»، بينما حمل هو عصا البيسبول التي يحتفظ بها في سيارته «لحالات الطوارئ» استلمها باليد «لأنها خاصة بالحزبيين فقط».
ضد الإيرانيين
يشغل الوضع الأمني أذهان «شباب التيار» في مناطق بيروت، ولا يخفي البعض أنه على استعداد لحمل السلاح في وجه «الآخرين»، ويبرّر ذلك بالاستعداد والجهوزية. محمد خ. واحد من هؤلاء «إذا فقدت السيطرة فنحن جاهزون، ولكن لن نبدأ بحرب أهلية». الشاب ابن الـ21 عاماً يتحدث بثقة عن قدرات التيار، وهو يفاخر بأن له قريباً في «أمن قريطم»، وقد ترك الجامعة اللبنانية في الحدث بعد أن تعرّض له طلاب من حركة «أمل» بالتهديد، ويتّهم المعارضة بأنها تسعى إلى الفتنة، ويرفض التعليق على مسألة تدريب المقاتلين من قبل «تيار المستقبل»، ويجيب: «هم من يدرّبون».
التعبير عن الموقف من الحرب الأهلية يختلف بين شاب وآخر، بحسب درجة تحزّبه للتيار، فمن هم ملتزمون سياسياً كحال محمد شومان، الذي يصرّ على أن التيار لن يشارك بأي حرب أهلية و«نحن لم يكن ميليشيا في يوم من الأيام على عكس باقي الأحزاب، ومنهم حزب الله»، أما إذا فرضت الحرب فهناك حديث آخر.
وفي المقابل، ينجرف البعض في التعبير عن القوة، ويتحدث عما يملكه التيار من رجال. الشاب الملتزم دينياً يأتي كلّ يوم إلى مسجد الإمام علي لأداء صلاته، وبالنسبة له فإن حمل السلاح وتعلم استخدامه «مسؤولية دينية على كل شخص لحماية ماله وعرضه»، ويعتقد أن ما قد يحصل مستقبلاً لن يكون حرباً أهلية بل حرب «ضد الإيرانيين في لبنان».
مفهوم جديد للجيرة
في المقلب الآخر من بيروت، حيث الأحياء التي تسيطر عليها أغلبية تؤيد المعارضة، الوصول إلى الشبان والحديث معهم لم يحتج إلى صلات وصل كما في «مناطق المستقبل». التحفظات اقتصرت على ذكر الأسماء الحقيقية فقط.
يبدي أبو حسن (22عاما) (منظّم في أحد أحزاب المعارضة)، استعداداً للدخول في حرب أهلية «لا بل حرب استنزاف»، إذا كان هذا كفيلاً بحماية طائفته وتنظيمه وأهله. مفهوم جديد للجيرة في بيروت أدخلته هذه الإشكالات، فبرأي أبي حسن «جاري هو من يحافظ عليّ، وليس من يؤذيني ويطعنني في ظهري أيام الشدائد والمحن حتى لو كان يسكن مقابل بيتي». يرمي ابن حي زقاق البلاط ذي الأغلبية الشيعية باللوم على الخطابات «المجنونة والمشبوهة» التي يسوقها دعاة التقسيم ومن يحالفهم. يرفض أن يوضع طرفا الإشكالات في السلة نفسها «نحن منضبطون جداً، وأكبر دليل ما حدث يوم الأحد الأسود في منطقة مار مخايل، قُتلنا ولم نحرّك ساكناً».
أبو حسن، شاب جامعي تخرّج أخيراً. غير أن الدخول إلى الجامعة وملاقاة أصدقائه من التيارات السياسية الأخرى لم يمنعه إطلاقاً من شراء كلاشنيكوف وستة «أمشاط»، لم يستعمل شيئاً منها حتى الآن «التزاماً بأوامر القيادة».
الإشكالات التي ساهم الشاب الجامعي في حلحلتها انطلاقاً من صفته التنظيمية، تبدأ بحسب روايته عندما يعمد مناصرو ومحازبو «تيار المستقبل» وحلفاؤهم في بيروت، إلى كيل السباب والشتائم لقادتنا ومعتقداتنا، أثناء مرورهم في مواكب «استفزازية» من دون مناسبة. استفزازات تولّد حالة احتقان لا بد أن تنفجر، وخصوصاً عند غير المنتمين إلى حزب الله أو حركة أمل، فالأخيرون تضبطهم الأوامر الحزبية.
جزء كبير من الشباب المشاركين في الإشكال لم يصل إلى الجامعات، كما يقول. أوضاعهم الاقتصادية تعيسة جداً، يستفزون بسرعة، فيصبح أبو حسن ورفاقه مضطرين للدخول، إما لحل الإشكال أو لمساعدة هؤلاء الشباب. يتخوّف من أن تنفجر المشكلة، وحينها يصعب ضبط الأمور! ورغم كلّ ما قاله، يؤكد أبو حسن: «المشكل يؤذي الطرفين ولا أحد يخرج منتصراً، إلا أن المشكلان تكون في مناطقنا كزقاق البلاط وبربور، وهذا دليل على أننا ندافع عن أنفسنا ولا نتهجم على غيرنا».
الحرب... طلباً للمال
«طبعاً سأدخل في الحرب الأهلية». بهذا الوضوح يجيب إبراهيم (24 عاماً) عن مدى تقبله للفكرة. الشاب الأنيق له أسبابه المختلفة بعض الشيء عن أسباب أبي حسن. غلاء المعيشة الفاحش الذي لم تعد أجرته التي يتقاضاها من عمله كـ«ميكانسيان»، تكفيه ولو لسد «نصف حاجاته»، عدا عن مسؤولياته تجاه عائلته. «في الحرب الناس تغنى ولا تفقر»، هذا سبب إضافي يحمسه للمشاركة، كما أن فكرة السعي إلى «تهجيرنا» استدعته لاقتناء السلاح على أنواعه، أبيض و«رصاصي»، والسبب: «عم يقتلونا شوي شوي، وأي مشكل صغير بيقلبوا جماعة المستقبل لمشكل سني ـ شيعي، مع إنو الأمور مش هيك».
المشكلة الكبيرة كما يراها إبراهيم هي «عقدة النقص» عند الطرف الآخر، التي يحاول التعبير عنها عبر التشبه بالمقاومة لجهة امتلاك السلاح، ليس لقتال العدو الإسرائيلي كما تفعل المقاومة، بل لقتال أهل بلدهم في الشوارع والزواريب. شارك إبراهيم في مشكلات كثيرة، كان آخرها في منطقة رأس النبع، كما في مشكلات حي البسطة وشارع فتح الله. رغم رفض أهله، وخاصة والدته، المشاركة في هذه الإشكالات، إلا أن «مشهد الشهيد أحمد حمزة وهو يرمى بالرصاص أغضبني كثيراً. لقد شجعني لأن أثأر له».
الرسالة للطرف الآخر كانت تحمل شقين: الأول يدعو للهدوء والمصالحة، لأن لا أحد ينتصر في المشكل، والشق الثاني ينطوي على تهديد ينذر بما يراه إبراهيم قادماً إذا ما استمرّت الأحوال كما هي «نحن ضابطين الوضع، ومش فزعانين بس محترمين قياداتنا».
أما مصطفى (21 عاماً) فقد كان التردّد واضحاً على وجهه، حتى وإن قال إنه يشارك في الإشكالات، ولا مانع لديه من المشاركة في الحرب الأهلية إن وقعت مجدداً. السبب هو ما أبداه من حرص شديد على صالون الحلاقة الذي امتلكه بعدما غادر مقاعد الدراسة باكراً. يعيش في منطقة الجناح المختلطة بامتياز. يلقي باللوم على الطرف الآخر من دون تردّد «انقلبوا على رفيق الحريري الذي يدّعون محبته. تآمروا علينا ووقفوا مع إسرائيل فيما كان هو يدافع عن المقاومة». يشهر سيفاً صغيراً من تحت قميصه الأنيق ويفاخر «شيعي على راس السطح». الشعار خرج في منطقة فقيرة جداً ومختلطة جداً. المكان حيث يسكن مصطفى فقير جداً، معدوم الخدمات، واضح أن الفقر يجمع أهالي المنطقة، لكن الواضح أيضاً هو أن للعصبية وقعاً أكبر في النفوس.
الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي لم يكن ليغيّر شيئاً جوهرياً في أسباب دخول الشبان في الإشكالات وما قد يليها. الجميع يشعر بالاستهداف، المتعلم وغير المتعلم. والجميع يرى أن من حقه فعل أي شيء للحفاظ على وجوده، حتى وإن تطلّب الأمر من الشباب الدخول في معارك داخلية. يبدو أن اللبنانيين لم يعتبروا بعد من مرارتها، فيصبح التهكم جائزاً «راجعة بإذن الله».


strong>حبّ الله: نتيجة طبيعية لغياب مشروع للسلم
يربط البروفسور في علم النفس عدنان حب الله بين حماسة الشباب للدخول في الحرب الأهلية، وبين مجموعة من العناصر التي تنمّي بذور العنف وتشجع على فعل الحرب والقتال.
«دورة العنف التي لم تكتمل بعد» هي عنصر أساسي برأي حب الله، إضافة إلى أن الشباب «لم يعيشوا مشروعاً واضحاً للسلم والحياة، وما نشأوا عليه منذ ولادتهم هو إما الحديث عن الحرب، أو معاينة آثارها من دون التطلع إلى مستقبل أفضل».
ويرى حب الله أن الأمور تبدأ من المنزل، وتحديداً من حديث الأهل بشكل متكرر أمام أبنائهم عن الحرب الأهلية، حيث إنه «لم تبق عائلة لم تشارك في الحرب الأهلية، إما مباشرة عن طريق الانضمام إلى الميليشيات، أو بشكل غير مباشر عبر المتخيّل في ذهن أفرادها»، مؤكداً أن ترسبات بقيت «والشباب هم مسرح لترجمتها».
عنصر آخر مثير تحدّث عنه الدكتور، هو «المتعة الخفية للحرب رغم كل المآسي»، وهذه المتعة تتسرّب من الآباء إلى الأبناء «الذين تكبر دوافع المشاركة لديهم، وتصبح الحرب الأهلية حينها هدفاً غامضاً، للحصول على متعة خفية بالصراع مع الآخر».
وللتماهي بالنموذج الحربي حصّته أيضاً، حيث «يعدّ مقياساً للرجولة في مثل هذه الظروف». وما يعزّز هذه النظرة لدى حب الله هو «الدخول العفوي في هذه الإشكالات دون أي خلفية سياسية عميقة عند الشباب»، مشبهاً الشباب أثناء اندلاع أي عنف «متل النور عالكبّة» حيث يهجم كل شاب لينال نصيبه من العنف كممارسة.
ولم ينس حب الله «الشرخ السياسي الذي يترجم على الأرض»، محمّلاً المسؤولية للزعماء السياسيين «هؤلاء لا يفكرون بأبعاد كلامهم الذي يمكن أن يتحول عنفاً على الأرض في سبيل إثبات هوية الغالب، وفي طياتها إلغاء للآخر». يضرب أمثلة كالمناظرات التلفزيونية والاتهامات المتبادلة التي تزيل العقبات أمام اندلاع أعمال العنف.
ويستطرد في شرح نوع آخر من العداء عند الشباب، ولكنه موجّه إلى الجميع هذه المرة. الهجرة التي وضعها كخيار بديل أمام الشاب الذي يصبح مضطراً إما للدخول في دوامة العنف أو الهجرة، عندما يفتقد «المصداقية التي يتكل عليها»، مشدداً على أن الشباب اليوم يعيش أزمة هوية وانتماء تسهم بدورها في هذه الخطوات.
وعن مستويات الشباب المستعدين للمعركة، لم يبد حب الله استغراباً لكلامهم، رابطاً الأمر بعنصرين: الأول منقول من تجربة الحرب الماضية، حيث كان الطلاب والمتعلمون من أوائل المشاركين فيها، والثاني يكمن في وضع الإنسان مهما كان مستواه أسيراً في معادلة «يا قاتل يا مقتول»، فيضطر للدفاع عن وجوده بكل الوسائل ومن ضمنها، لا بل أوّلها العنف.