strong> مع عبد المحسن الحسيني، أصبح لمدينة صور، منذ 10 سنوات، رئيس بلدية و«خال»، هو لها في سلمها وخطرها وبحرها وتنوعها التاريخي، واحتضانها أمم العالم، ومنها إيطاليا التي تمنحه اليوم في بيروت وسام الاستحقاق مع مرتبة الشرف
صور ـ آمال خليل
لا يختلف صوريان اثنان على أن الحسيني، أو «الخال» كما يُعرف، هو إحدى ميزات المدينة، لأنه يشبهها في سعة صدره ومرحه وانفتاحه واهتمامه بوحدات اليونيفيل التي تتمركز مدنياً فيها. حتى إنك تسمع كثيرين ممن يعرفونه «يحلفون بحياته»، في صور وفي اتحاد بلدياتها الذي يرأسه أيضاً، وخصوصاً بعد عدوان تموز حين تنصّل كثيرون من مسؤولياتهم وهربوا إلى الأمان مخلّفين وراءهم المدينة وفقراءها في مواجهة الموت والجوع والخوف.
صور أولاً
من جملة ما يستخدمه بعض دعاة التغيير في صور، وتخليصها من «تبعية الإقطاع والنفوذ الأحادي الذي يتحكّم بمواردها وبحرها وفضائها»، الذين يعتبرون البلدية «إحدى أدواته ومظاهره»، أنه لا يعقل أن يرأس مجلس بلدية المدينة العريقة شخص «ليس منها»، في إشارة إلى الحسيني الذي ينتمي في الأصل إلى قرية جنّاتا (قضاء صور) التي ولد فيها عام 1936؛ علماً بأن والده السيد محمد علي الحسيني نقل نفوس أسرته إلى صور منذ انتقالهم إليها عام 1941، حيث افتتح الوالد متجراً وسكنوا في الحارة القديمة حتى عام 1947 عندما انتقلوا للعيش في دير قانون النهر (قضاء صور)، فيما تلقّى «الريس» دروسه في المدرسة الجعفرية في صور. لكن صور التي يجري بحرها في دمه، كما يقول، «تستحقّه ويستّحقها أكثر من بعض من فضّل بلاد العالم عليها».
يهتم «الخال» بأحوال المغتربين الذين يمثّلون نسبة كبيرة من أهالي صور، وخصوصاً في أفريقيا والخليج، حيث نالت الغربة من سنوات شبابه مذ كان في الثامنة عشرة عندما سافر إلى الكويت وعمل سنكرياً وبائعاً وحداداً و«معلم عمار»، انتهاءً بوظيفة في وزارة الشؤون الاجتماعية، قبل أن يعود إلى لبنان بسبب أحداث عام 1958 ووفاة والدته. وإلى أفريقيا عزم على الرحيل، التحاقاً بأخيه الأكبر، ثم عاد بشكل نهائي بعد اجتياح عام 1978 حيث ساهم لوجستياً في المقاومة التي منحه جنودها لقب «الخال».
خال من لا خال له
لا يدّعي أحد، وأولهم «الخال»، أنه يحمل عصا سحرية «يحلّ بها المستعصي من المشكلات، وخصوصاً في ظلّ الحرمان التاريخي للجنوب والإهمال الحكومي المطّرد تجاه البلديات منذ عام 2005، وقلة الإمكانيات المتوافرة، ما يجبر المسؤولين المحليين على طلب دعم الهيئات الدولية المانحة والخدمات المختلفة التي تقدّمها وحدات اليونيفيل». لكن ما يميز «الخال» أن مكتبه لا يخلو من الزوّار المحليين والعالميين، لطلب مساعدة أو تخليص مشكلة ما. وبحسب أحد الصوريين، يكفيه أنه «ليس من جماعة رؤساء بلديات الويك أند، بل هو موجود يومياً في مقرّ البلدية، وعندما تحتاجه تجده. فهو العامل المشترك بين أتراح المدينة وأفراحها ومهرجاناتها ومجالسها الدينية وحفلاتها ومحاضراتها الثقافية والسياسية والبيئية».
تموز العالم الآخر
تموز وعدوانه لا يزال يعشعش بين تجاعيد وجه «الخال»، بعدما تحوّل على مدى 33 يوماً متعهد دفن موتى وحفّار قبور ومسعفاً وسائقاً ومتطوعاً. وهو يقول إن جثث الشهداء الممزقة التي ساهم مع عناصر الدفاع المدني وطاقم مستشفى صور الحكومي في توضيبها في الأكياس والصناديق الخشبية، ودفنها كوديعة بالقرب من المستشفى، لا تزال تؤرقه في صحوه ونومه. ويضيف: «كان أمراً لا يوصف، وأنا أقف أمام الصناديق الخشبية التي جمّعنا خشبها من المدينة كلها لمّا تزايد عدد الشهداء. كنت أشيح نظري عن وجوه الأطفال الممددة أرضاً بانتظار جمع أشلائها ودفنها. كنت أخاف من نظراتهم ونظرات أهلهم إليّ لأني الأب الأكبر لهم، وأخشى لومهم كما يلوم الأبناء والدهم. وكم خجلت من الأهالي النازحين إلى مدارس صور والاستراحة، وخصوصاً عندما كانت تنفد المواد الغذائية أو عندما نودّع اللبنانيين حاملي الجنسيات الأخرى والأجانب الذين كانت حكومات بلادهم ترسل السفن لإنقاذهم؛ كأن من اكتفى بالجنسية اللبنانية عقابه البقاء في فم الموت». ويزيد: إن «قلبي لم يطاوعني على مغادرة صور وهي تتعرض للعدوان، كما لم أتركها لوحدها في الاعتداءات الإسرائيلية السابقة». وإذ صدّ عنها من قبل كجندي مجهول في جبهة المقاومة اللبنانية الوطنية، كيف له ألا يصدّ عن أهلها في العدوان الأول الذي يشهده بعد أن أصبح الأب المسؤول تحت الشمس. وهو لا يزال يحظى بتكريم الهيئات المحلية والأجنبية التي تزور الجنوب في إطار الزيارات التفقدية أو تنفيذها مشاريع دعم وتنمية في القرى.
لكن في نفس الخال لوماً كبيراً على كثيرين ممن تخلوا عن مسؤولياتهم تجاه الناس، لأن الذين «يشتغلون بالسياسة ليسوا مستعدين لأن ينتظروا أحداً، وحقّقوا الأمنية الإسرائيلية بأن يفرغ الجنوب من ناسه». لكنهم بعد انتهاء العدوان «نصّبوا أنفسهم أبطال الانتصار والصمود». هو لا يريد شيئاً له «لأن مكاني محفوظ أمام نفسي»، لكنه يخشى على «تدهور العمل البلدي والشأن العام الذي تحوّل إلى مناصب ومنافع ومصالح شخصية لا أكثر».
طقم الأوسمة
عاد «الخال» لتوّه من زيارة رسمية إلى كوريا الجنوبية التي تتّخذ من بلدة طيردبا (قضاء صور) مقرّاً لها، وتخدم في القرى الواقعة في منطقة انتشارها. وإذ وجدت لديه دعماً وتقديراً كبيراً لما تقوم به من نشاطات مختلفة منذ التحاقها باليونيفيل في أيار الفائت، بادلته التقدير ودعته وزارة الدفاع لزيارتها، حيث حضر حفل تنصيب رئيس الجمهورية الجديد، والتقى رئيس الأركان في الجيش الكوري، وجال في أرجاء معالمها الرئيسية، واستقبل كضيف رسمي من الدرجة الأولى.
وبعد شهرين على نيله وسام الاستحقاق من الجمهورية اللبنانية، تكرّمه اليوم الحكومة الإيطالية وتمنحه وسام الشرف لدعمه الدائم لعمل كتيبتها العاملة في إطار اليونيفيل، والمترئسة القطاع الغربي الذي يشمل صور وقراها، بالإضافة إلى دعم قوات اليونيفيل عموماً التي يقودها الجنرال الإيطالي كلاوديو غرازيانو.
الخال مكرّم إيطالياً اليوم في مقر السفارة الإيطالية، لأنه رفض أن يتلقى الوسام في إيطاليا بل في لبنان، لمحبته لشعوب العالم وحرصه على السلام وجنوده، واعتباره أممياً «الشخصية الجنوبية المثالية المعتدلة». لكن الحسيني الذي نصّبه المقاومون خالاً، يدرك تماماً أن «الجنوب يستضيف أمم العالم ويحسن معاملتهم ويحتضنهم، لأنه معقل المقاومة، وهو كذلك بالنسبة إليهم، الخال والأب، لأنه ابن هذه المقاومة».