strong>«شو يا شباب عم تواجهو البارودي بالكرافات؟». هكذا انتهت تظاهرات مرحلة الاستقلال الأوّل. انتهت مرحلة «الحجارة وقطع الأشجار»، وولدت أنواع جديدة ابتكرها «القياديّون الجدد» لتظاهرات اليوم: مهرجانات، أغان، حملات دعائية و... حرق إطارات! ماذا تغيّر بين الاستقلالين؟راجانا حمية
اعتاد لبنان الشوارع. غرق فيها إلى درجة أنْ جعل منها الرديف الوحيد للوصول إلى صيَغ الحكم فيه. لكنّ هذه الشوارع تغيّرت في كلّ شيء، فالأمس لا يشبه اليوم. لم يعد «حجر» تظاهرات الأعوام 1952 و1957 و1969 و1974 كافياً. ولا يبدو أن «فورة» المهرجانات ـ التظاهرات التي استقطبت وسائل الإعلام حققت النتيجة المرجوّة. فهل بات «حرق الإطارات» بديلاً؟، وخصوصاً أنه «نجح» في تجربته الأولى في تظاهرة عام 1992 التي أسقطت حكومة الرئيس عمر كرامي الأولى.
بين «الاستقلالين»، في 1943 و2005. ثمّة «لبنان» لم يعد موجوداً ويفتقده كثيرون ممّن كانوا في عهد سابق من روّاد الشارع المطلبي الأوّل الذي بدأ عام 1951 وانتهى مع بداية الحرب الأهليّة مخلياً ساحته لشوارع جديدة لم تعد تجد تسميتها في تظاهرة شعبيّة واحدة.
إذاً، التظاهرة ليست طارئة ولم تُحصر في تاريخ واحد. عرفها اللبنانيّون في عهد الاحتلال العثماني، ومن بعدها لبنان الكبير، ولبنان 1943 ولبنان 1956 و1975 و1983 و2005 و2006، ولا يزال إلى اليوم يشهد تظاهرة دائمة في وسط البلد لم تنته، وإن كان منظّموها يحصرون انتهاءها بسقوط الحكومة الخامسة.
ثمّة ذكريات أيضاً لا يمحوها النسيان يختزنها هؤلاء عن تظاهرات مفصليّة شهدها البلد الصغير، سقطت فيها حكومات وشهداء ولا يزال، وإن اختلف النمط والشكل والأشخاص والمطالب.
ما قبل... وما بعد
بالأمس كان عصام العبدالله وسعد الله مزرعاني وعصام خليفة وغيرهم كثيرون يحملون «لبنان» على كاهلهم ويجوبون به الشوارع، يطالبون بحقوقه وحقوقهم، فلم يتعدّ الطلب يوماً حدود «اللبنان الواحد». واليوم، هؤلاء الثلاثة... وغيرهم تنحّوا، ينظرون إلى اليوم بعين «حاقدة»، متّكئين على «دستة» ذكريات، لم يبقَ منها سوى أسماء الرفاق الشهداء والأحياء.
بين الأمس واليوم، كثرت الفوارق حتّى بات الحديث عن تظاهرات ما قبل الحرب الأهليّة وتظاهرات ما بعدها، وحتّى باتت الحرب مفصلاً بين التظاهرة الدائمة التي كانت عادة تبدأ من ساحة البربير وتنتهي في وسط البلد، وبين التظاهرات التي ما عادت تجد خطّ البربير ـ وسط البلد كافياً لمطالبها.
وحدها الانقسامات بقيت، لكن تغيّرت أشكال التظاهرات والمشاركين فيها. يتذكّر نائب الأمين العام للحزب الشيوعي سعد الله مزرعاني تظاهرات الفترة الواقعة بين عام 1951، وتحديداً مع نشوء الجامعة اللبنانيّة وبداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة عام 1975. يعود مزرعاني إلى تلك الأعوام التي توحّد فيها الشباب من أجل حماية حقوقهم في الجامعة اللبنانيّة الوحيدة، إلى أن وُلد الاتّحاد الوطني لطلّاب الجامعة اللبنانيّة. يؤرّخ بالذكرى مراحل مرّ فيها طالباً مدافعاً عن حقوقه، وثائراً في الـ68 ضدّ تقصير الدولة wwفي حماية المطار، عندما خرقته الطائرات الإسرائيليّة ودمّرت طائراته... وشاهداً في تظاهرة 23 نيسان الـ75 الشعبية على بداية التحوّل من التظاهرات السلميّة إلى العنف والحرب والرصاص. يصف مزرعاني ذاك المشهد، كأنّه يراه لتوّه، يذكر أنّه في تلك اللحظات أحسّ بالخوف ممّا ينتظرهم، ويذكر أيضاً الجملة التي قالها أحد الرفاق، والتي أرّخت مرحلة 15 عاماً من الحرب عاشها "إنو شو يا شباب عم تواجهوا البارودة بالكرافات".
... نحو العنف
هكذا بدأت الحرب، وهكذا بدأت التظاهرة تغيّر من مفاهيمها. انتقلت من السلميّ أو «العنف المخفّف» الذي كانوا يلجأون إليه، عندما كانوا يصطدمون بالقوى الأمنيّة. وحدها القوى الأمنيّة كانت تسرق هؤلاء من لحظاتهم الهادئة، وتدفعهم إلى عنف عابر لا يتعدّى التلاسن الكلامي مع «قوى الحماية»، أو «في أسوأ الحالات التشابك بالأيدي».
يستدرك مزرعاني أنّ المتظاهرين لم يكونوا يومها يبادرون إلى «الصدام»، فالأمن، كما دائماً، هو البادئ الأوّل في حلبة الصراع، يضرب ويحدّد مسار التظاهرة وفقاً لتعليماته... وفي لحظات الذروة، يبدأ جولته الثانية من الضرب بالقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه لتفريق التظاهرة واعتقال البعض باسم المتظاهرينمن كلّ تلك الذكرى، يستثني مزرعاني بضع لقطات بادر فيها الشباب إلى العنف، مجموعة لقطات يجمعها من مسيرة 20 عاماً وأكثر من التظاهرات التي شارك وشهد فيها بعض «المشاغبات من الشباب، حيث كانوا يلجأون إلى تكسير زجاج سيارات القوى الأمنيّة أو التعدّي على الأملاك العامّة القريبة، عندما كان يُصاب أحد الرفاق بهراوى أو ضربات الأمن فقط».
ومن بين تلك اللقطات أيضاً، يتذكّر مزرعاني «مشهد العسكري الذي اصطدم بأحد الشباب، عندما رمى بندقيّته لصديقه، خوفاً من فورة أعصابه التي قد تدفعه لإطلاق النار». والباقي الذي يشهده كثيرون اليوم، لم يعرفه مزرعاني ولا خليفة ولا العبدالله... إلّا مرّة واحدة عاشها الثلاثة في تظاهرة خطّ البربير عام 1969، التي شاركوا فيها دفاعاً عن العمل الفدائي الفلسطيني. لم تكن هناك نيّة في مواجهة الشرطة، لكنّ نارها والشهيد الذي سقط، دفعت المتظاهرين إلى إحراق سيارة الشرطة. وتغيّر شكل التظاهرات، كما تغيّر المنطق والمسير.

5 دقائق هتاف

بعد نكبة الـ67 وبعدها تظاهرة الـ69، سقط الشعار القومي العربي، واستوطن الفكر الماركسي ـ الأممي. في تلك الفترة، انخرط العبدالله ومجموعة من الرفاق في منظّمة العمل الشيوعي بعد تجربة أربع سنوات في حزب البعث العربي الاشتراكي. أكمل ما بدأه في تجربته السابقة من كتابة الشعارات و«الردّيات» وقيادة التظاهرة. يعود العبدالله إلى الوراء سنوات، ويتذكّر محسن ابراهيم «أبو خالد» ومكتب جريدة الحرّية الذي كان يأوي إليه منذ الصباح الباكر قبل يوم واحد من التظاهرة، يكتب الشعارات ولا يخرج منه إلّا عندما يتّصل بأبي خالد مساءً ليقول له «خلّصت، افتح الباب». يخرج في اليوم التالي بعد أن يكون قد «حفّظ» السباب الردّيات، ويبدأ اليوم الطويل، الذي ينتهي في الغالب بالاعتقال أو بتظاهرة «طيّارة»، عندما يصل الخوف أعلى حدّه من القوى الأمنيّة.
يقسّم المعتصمون تظاهرتهم إلى تظاهرات يتوزّعونها ما بين وسط البلد والبربير، يهتفون خمس دقائق حتّى تصل القوى الأمنيّة فيفضّونها ويبدأون بأخرى في حيّ مجاور، وهكذا دواليك إلى أن يعمّ الشغب، من دون صدامات، وإن استدعى الأمر، عراكاً بالأيدي أو «حجراً من هون، أو اقتلاع شجرة في الطريق».
اليوم، يفرح العبدالله بذاكرته التي تحفظ تفاصيل تظاهرات، كان «القائد» فيها، يكتب ويردّد الشعارات، و«ينتصر» عندما يخطف جماهير الأحزاب المشاركة للردّ على شعاراته، وخصوصاً «بلوك الحزب الشيوعي اللبناني، فكنّا ندّعي أنّ المنظّمة أكبر من الحزب، وأنّ الحزب لم يكن موجوداً أصلاً». يحزن «لأنّه كنت مصدّق الشي الصاير، كنت أعيش الحالة، ألبس كوفية فلسطينية، وأصرخ وأُعتقل». ويضعف أيضاً أمام مشاهد التظاهر اليوم، يعرف جيّداً أنّ التظاهرة لم تعد هي والشعارات أيضاً. يؤرّخ لجيل جديد من التظاهر مع بداية حرب الـ75. انقلب المشهد. استوطنت ميليشيا التظاهر، غاب الخطاب الوطني مخلياً ساحته لخطابات وخطابات مضادّة. «الطيّارة» باتت ثابتة، كلّ واحدة منها باسم «جماعة». هنا تظاهرة، وإلى جانبها أخرى، وثالثة بينهما طارئة «للمصالحة».
الرصاص بدل الهراوة
فترة الحرب وما بعدها، رسمت نهجاً جديداً دخلت فيه قيادة الجيش إلى جانب القوى الأمنيّة، واستبدلت هراواها بالرصاص والدبابات كأنّنا في ساحة معركة، واستبدل معها المتظاهرون «الحجر واقتلاع الشجرة بالقنص وإحراق الإطارات».
... والشعارات، لم تعد هي أيضاً، استبدلت «بقدرة قادر»، فاليوم، يرى العبدالله أنّها لم تعد شعارات، حلّت مكانها الشتائم، وتشعّبت المطالب من حماية العمل الفدائي ولبنان قبل الـ75 إلى حماية زعماء الطوائف و«لبناناتهم» بعد الـ75، لتصل اليوم إلى الذروة في الدفاع «عن دول على أرض لبنان، وإن كانت هي نفسها التي ناضلنا ضدّها في الفترات السابقة».
انتهت الحرب ومعها تظاهراتها وشهداؤها، وبقي بعض «الرفاق» ينظرون إلى اليوم، يقارنون و«يترحّمون» على الحجارة، فهل يأتي وقت نترحّم فيه نحن «على الرصاص والإطارات»؟.


«الحق على من سبقنا»
اليوم، بعد الحجر، يهرب الشباب إلى «الرصاص والنار» من أجل مطالبهم، متنصّلين من مسؤولية ما يترتّب على هذه الحركات. هم قياديّون... لكنّهم غير مسؤولين عن الشغب. هم مسؤولون فقط عن آرائهم الشخصيّة التي ما عادوا قادرين على البوح بها لأنفسهم، لأسباب عدّة، قد يكون أهمّها أنّهم آمنوا برأي القائد والزعيم والبيك، أيّاً تكن التسمية، وآمنوا بقدرهم أن يبقوا محكومين.
الحقّ ليس عليهم، فالحق، كما يراه أحد منظمي تظاهرات المعارضة اليوم، على «الذين سبقونا». يلوم «القياديّين السابقين وتراكمات الطبقات السياسيّة الحاكمة التي مرّت على لبنان». ويبرّر، في الوقت نفسه، تحرّكاتهم الحالية. فهو، كما غيره من الشباب، يؤمنون بأنّ «لكلّ زمن حساباته. لم نعد نحلم، نعيش واقعاً معيشياً صعباً ومذهبياً يحتم علينا أن تكون التظاهرة مثل جو البلد». فبين «نحن» و«هم»، سلسلة من التراكمات تبرّأ منها الطرفان. السابقون «انجرّوا»... والجدد «جرّونا اللي قبل»... ودائماً «الحق مش علينا، على الغير الذي أوصلنا إلى هنا». لا ندري من هو «الغير»، ولا يهمّ، «فنحن وُضعنا في الوقت الخاطئ، نحن جيل حرب، وُلدنا على صوت المدفع، وما زلنا».
ورغم ذلك، يعرف الشاب العشريني، ورفاقه أنّ «99% قادرون على التغيير لكنّهم لا يفكرّون، وقد أكون أنا من ضمنهم بالعفويّة والحماسة، وليس أمامنا سوى تلك الأساليب للوصول إلى مطالبنا، ولو كان بإحراق الإطارات والشتم والخطاب اللاوطني».
يعرف كلّ تلك الأسباب، لكنّه يكمل، ويؤمن، وإن كان يشكّك في أحيان كثيرة بإيمانه، بأنّ «الدولاب والرصاص قد يكونان الحلّين الوحيدين بالنسبة إلى البعض في هذه الآونة للوصول إلى التغيير».