أنطوان سعدوسط المراوحة والتأجيل المتكرر لمواعيد جلسات انتخابات رئاسة الجمهورية وتكوّن انطباع لدى معظم المعنيين في الشأن العام اللبناني، موالين ومعارضين، بأن الانتخابات الرئاسية لن تجري في المدى المنظور، ثمة توجهان في الأوساط المسيحية:
إبقاء موضوع تقسيمات الدوائر في قانون الانتخاب مطروحاً على بساط البحث، باعتباره أحد أسباب الأزمة الحالية القائمة بين الموالاة والمعارضة، والتوجه الثاني يقول بكفِّ الكلام عنه لأنه ملهاة ومضيعة للوقت، ولن يكون إلا سبباً إضافياً معرقلاً أمام حصول الانتخابات الرئاسية.
القائلون باستمرار البحث في موضوع قانون الانتخاب يبررون موقفهم بالتشديد على أن العمل الجدي في هذا الإطار يتطلب وقتاً طويلاً للدخول في حوارات متعددة الخطوط مع الشخصيات والقوى التي يمكن أن تعارض التقسيمات التي تحفظ صحة التمثيل لجميع المكونات الطائفية للبنان.
ويبدي أصحاب هذا الرأي تفاؤلاً إزاء إمكان تذليل العقبات التي يضعها بعض القوى النافذة، في حال إعطائها شروحاً وضمانات معينة. أما البعض الآخر الذي سوف يبقى على رفضه لأن التقسيمات قد تؤدي إلى تقليص حجم كتله في المجلس النيابي المقبل فيمكن اللجوء إلى أساليب أخرى لإقناعه.
ومن هذه الطرق محاولة الاستفادة من الانقسام المسيحي الحاصل بين طرفي النزاع من خلال سعي مسيحيي كل طرف لدى حلفائه للحصول على نوع من إعلان نيات بقبول مبدأ الدوائر المصغرة التي تؤمن صحة التمثيل للمسيحيين كما لغيرهم من الطوائف. وسوف يكون إعلان النيات المشار إليه مهماً للغاية عندما يحين موعد الحوار الجدي لإقرار قانون الانتخابات النيابية. ولا مبالغة في القول إن الطرف المسيحي الذي ينجح في إقناع حلفائه بتبني هذا المطلب المزمن سوف يحقق تقدماً مهماً في الرأي العام المسيحي، لا بل في الرأي العام اللبرالي اللبناني. وإذا تمكن أي من الأحزاب والتيارات والشخصيات المسيحية من هذا الأمر، فسوف يكون ذلك بمثابة تعويض لا بأس به عن الثمن الباهظ الذي يدفعه المسيحيون في النزاع القائم، ولا سيما على مستوى فراغ رئاسة الجمهورية والدور الفاعل في مجلسي النواب والوزراء.
في المقابل، يعتبر فريق آخر أن الكلام في موضوع قانون الانتخاب هو لإضاعة الوقت وتشتيت انتباه الرأي العام عن موضوع الفراغ الرئاسي وبالتالي عن إمكان فتح الباب أمام بدء عملية إعادة الدور المسيحي إلى المعادلة السياسية
اللبنانية.
كما أن إثارته هي اليوم زيادة في التعقيدات التي تحول دون الانتخابات الرئاسية، وكل جدل في هذا الإطار يصب في خانة التعطيل. غير أن بعض نواب فريق الموالاة، من الذين يتمتعون بقدرة تمثيل حقيقية في المناطق التي انتخبوا عنها، ينشطون في اتجاه بلورة أفكارهم وتكوين معرفة عميقة بملف تقسيم الدوائر الانتخابية، بعدما أعلنوا مواقف مؤيدة للدوائر الصغرى.
وفي معرض التعليق على كلام رئيس مجلس النواب نبيه بري المنتقد، بشيء من السخرية المطالبة بأن تنتخب كل طائفة نوابها، كما أيام المتصرفية، تقول أوساط مارونية إن ما فات الرئيس بري هو أن ذلك القانون جاء بعد عشرين سنة من التطاحن الطائفي الذي نجم عنه آلاف الضحايا، ولا سيما في المجازر التي وقعت في الأعوام 1840 و1845 و1860.
واللافت أن النظام الانتخابي الذي انتقده رئيس المجلس النيابي أعطى لبنان، بعد تلك المآسي، نحو خمسة وستين عاماً من الاستقرار السياسي والأمني المتواصل، ما انعكس ازدهاراً اقتصادياً لا مثيل له في تاريخ لبنان، وارتفاعاً في سعر العقارات، حتى بات يحسد من كان له «مرقد عنزة في جبل لبنان».
فيما أدت قوانين الانتخاب التي اعتمدت دوائر كبرى تحت مطرقة الرئيس بري إلى تشنج طائفي وتدهور أمني واقتصادي وتردٍّ سياسي لا مثيل له أيضاً في تاريخ لبنان.
المسألة، بحسب هذه الأوساط، هي أن يحدد أقطاب الطوائف اللبنانية غير المسيحية ومثقفوها وقادة الرأي فيها، أي نمط حياة وأي لبنان يريدون وأي دور يتوقعون أن يقبل المسيحيون فيه.
ومن ثم أن تعكف الأوساط المسيحية من كل الاتجاهات على دراسة مواقف هذه المرجعيات وتبني على الشيء مقتضاه. أما إذا كان بعض اللبنانيين لم يتعلموا من تجارب الماضيين البعيد والقريب والأزمة الراهنة، ويحلمون بتكرار تجربة التحالف الرباعي، فلن يكون أمامهم سوى مشاهدة تكرار نتائج هذا
التحالف.