باريس ـ نقولا ناصيفلا يتخلى الكي دورسيه عن الآمال التي لا يزال يعلِّقها على تسوية داخلية للأزمة الدستورية والسياسية اللبنانية، مع معرفته بتأثير التدخلات الخارجية فيها. ولا يتردّد في تأكيد استعداده لبذل الجهود لإنقاذ هذه التسوية، إلا أنها تقف عند أبواب دمشق. ليس في وارد الدبلوماسية الفرنسية إجراء اتصال رفيع المستوى بسوريا. كل ذلك لا يخفّف وطأة القلق الذي يشغل بال باريس حيال ما يجري في بيروت، واحتمال انعكاس تدهوره على الجنوب. ذلك ما انتهت إليه زيارة الوفد الفرنسي للبنان مدة أربعة أيام بين 27 شباط والأول من آذار، وضم أعضاء مثلوا وزارتي الخارجية والدفاع، هم مديرة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، سيلفي بيرمان، ونائب مدير دائرة الشرق الأوسط، لودوفيك بوي، وعدد من الضباط الكبار، والتقى مسؤولين رسميين لبنانيين وآخرين في وزارة الدفاع، إلى حزب الله وقيادة القوة الدولية في الجنوب.
ورغم أن الاجتماع بالحزب اكتنفه التباس، بالإعلان عنه تارة وبنفيه طوراً، فإن ما سمعه الوفد الفرنسي من مسؤول العلاقات الخارجية في حزب الله السيد نواف الموسوي يوم 29 شباط، انطوى على عناصر للقلق وأخرى للطمأنة، إلا أنه لم يستنتج ضمانات جدية. سمع وجهات نظر متقاربة لم تبدّد الشكوك. حملها إلى الكي دورسيه الذي يوجزها:
1ـ كان هدف الزيارة الاطلاع على الوضع في جنوب لبنان، في ضوء الآثار التي تركها اغتيال المسؤول الأمني البارز في حزب الله عماد مغنية في 13 شباط، وانعكاسه على وجود القوة الدولية جنوبي نهر الليطاني، أضف اهتمام الوفد بوضع الوحدة الفرنسية في هذه القوة في الظروف التي وصفتها الدبلوماسية الفرنسية بأنها صعبة بعد اغتيال مغنية. رغب الوفد في إبلاغ الرئيس فؤاد السنيورة وقيادة الجيش أهمية المحافظة على الاستقرار جنوباً، والموسوي أن باريس ترى أن حزب الله لاعب رئيسي في جنوب لبنان، وهي على اتصال به، وترى دوره مهماً في تحقيق الاستقرار هناك. ولفت الوفد إلى أن الأزمة السياسية مثار اهتمام فرنسي ودولي، وفي الوقت نفسه مبعث قلق، الأمر الذي حمله على طرح سؤال عليهم: إلى متى سيبقى جنوبي نهر الليطاني في منأى عن الأزمة السياسية في بيروت؟
2ـ أكد الوفد للمسؤولين الرسميين والحزبيين ضرورة عدم نقل الأزمة السياسية من بيروت إلى الجنوب، وتجنيب منطقة عمليات القوة الدولية مصير الضحية في هذا النزاع. كانت الردود التي تلقاها متفاوتة. أبدت الحكومة اللبنانية حرصها على استمرار الاستقرار في المنطقة. وقال الجيش ـ بوثوق أثار انتباه محدثيه الفرنسيين ـ إنه سيبقى في الجنوب وسيستمر في مهمته، وإن لم يكن لديه سلاح، وإنه دخل الجنوب كي يبقى فيه، وهو يعدّ نفسه أقوى من الأفرقاء الآخرين في منطقة عمليات القرار 1701. كانت تلك أيضاً تأكيدات قائد القوة الدولية في الجنوب الجنرال كلاوديو غراتسيانو باستمرار القوة الدولية في أداء مهمتها، وأن هذه ستعمد إلى مواجهة أية تطورات أمنية تعرّض الاستقرار للاضطراب، موضحاً لأن الجيش اللبناني بمؤازرة القوة الدولية يمنع وجود سلاح غير شرعي في منطقة عمليات القرار 1701.
لكن الوفد، في تقويمه ما سمعه، لاحظ أنه ليس للحكومة اللبنانية رؤية واضحة حيال الجنوب، سوى إعلانها دعم القوة الدولية والجيش واحترامها القرار 1701 ومكافحتها الإرهاب وإدانتها الانتهاكات الإسرائيلية واستمرار احتلال بلدة الغجر ومزارع شبعا.
3ـ أبلغ الموسوي إلى الوفد الزائر أن حزبه ينظر إلى دور القوة الدولية بإيجابية، وأن ثمة تفاهماً بينه وبينها، وكذلك مع الجيش على ضمان استقرار المنطقة، قائلاً إنه لا وجود مسلحاً للحزب فيها. وشدّد على أن انتشار القوة الدولية تحقق بفضل موافقة حزب الله عليه ودعمه له. تالياً ـ أضاف الموسوي ـ لا أسباب لتغيير الوضع القائم في جنوب لبنان في الوقت الحاضر.
ورداً على سؤال الوفد الفرنسي هل يكون الجنوب مسرح ردّ فعل حزب الله على اغتيال مغنية، أوضح الموسوي أن الردّ لن يستهدف مَن لا صلة لهم بالأمر. استنتج الوفد الفرنسي من هذه الإشارة أن الجنود الدوليين، ولا سيما الفرنسيون، لن يكونوا هدف الحزب إذا عزم على الانتقام لاغتيال مغنية. لكن أكثر من موقف أدلى به الموسوي أمام محدثيه بعث القلق في نفوسهم. قال إن حزب الله لن يتخذ المبادرة بشن حرب على إسرائيل، بيد أنه يتحضّر لها كما لو أنها ستقع، لأنه واثق من أن إسرائيل تستعد لها وستقدم عليها عاجلاً أو آجلاً. لذا يستعد لها. قال لهم إن الحزب أعدّ عدّته وأتمّ تسلّحه وتدريب عناصره. تركت مواقف الموسوي هذه صدى لدى الوفد الفرنسي الذي استخلص بضع ملاحظات ارتكزت على مشاهداته لدى زيارته الجنوب:
أولها، أنه ليس ثمة تهديد مباشر من حزب الله للقوة الدولية، والجنود الفرنسيين خصوصاً.
ثانيها، انتشار صور مغنية والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في الجنوب على نحو كثيف، وفي منطقة عمليات القرار 1701 تعبيراً عن فاعلية وجود الحزب فيها. لفته أن الناس لا يكنّون عدائية للقوة الدولية خلافاً لواقع خبرته بغداد وكابول وساراييفو. بل اطلع على نمط مهم من العلاقات نسجتها البلديات التي يترأسها مؤيدون للحزب مع القوة الدولية عزّزت أسباب التفاهم والتعاون.
ثالثها، أن الجيش منتشر جنوباً بأسلحته، وإن لمس الزوار الفرنسيون أنه منهك بعد حربه ضد «فتح الإسلام» في نهر البارد قبل أشهر، وتشتّت قواه بين الجنوب وبيروت ومناطق أخرى. لكن قيادة الجيش أكدت استمراره في مهمته والتعاون مع القوة الدولية.
رابعها، أن إفصاح حزب الله عن استعداده لحرب مع إسرائيل، وفي الوقت نفسه طمأنته إلى استقرار الجنوب، شغل بال الوفد وأقلقه على مصير القرار 1701 وتعرّضه للخطر. ولفت انتباهه إلى أن الموسوي اكتفى بالقول إن الحزب لن يبادر إلى إشعال حرب، من غير أن يقدّم ضمانات جدية بذلك، لكنه أوحى بعبارته أن حزب الله، لا الجيش، هو مَن يحمي جنوبي نهر الليطاني.
ماذا عن المشكلة السياسية في بيروت؟