رغم كل ما يُحكى عن التقدم الذي أنجِز حتى اليوم لإنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، فإن التدقيق بالأموال التي تبرّعت بها الدول لصندوق المحكمة، يُظهر أن عملية تمويل المحكمة لا تزال بحاجة لمتبرعين جديين، هذا عدا عما ذكره الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره الصادر قبل ثلاثة أيام، من أن الكلفة النهائية للمحكمة لم تُحدّد بعد نزار عبودأكثر من ثلاث سنوات مضت على اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، ولا يبدو الالتزام الدولي صلباً بما يكفي لجعل جلسات محكمة لبنان الدولية تبصر النور في وقت قريب. لا بل إن التناقضات التي ظهرت في الأسابيع الأخيرة، تشير إلى أن وراء «السلاسة» المعلنة في تشكيل المحكمة خلافات سياسية وإدارية عميقة على مستوى الدول، كما على مستوى الأمانة العامة للأمم المتحدة. وتخشى بعض الدول من أن تتدهور الأوضاع الأمنية في المنطقة نتيجة التجاذب الدولي على لبنان، إلى حد تعميم النموذج العراقي أو الدخول في صراع إقليمي طاحن لا يخدم سوى بقية المحافظين الجدد.
التقرير الأخير للأمين العام للأمم المتحدة عن سير تشكيل المحكمة تحدث عن مساهمة تقل عن 29.5 مليون دولار، وعن تعهدات لا تزيد عن 16.5 مليون دولار. إنه مبلغ يقل عن المطلوب للسنوات الثلاث الأولى. وهذا العزوف عن المساهمة أو التردد في اتخاذ القرار يتناقض مع نماذج مساهمات عديدة أخرى حول العالم، وكان آخرها جمع ملياري دولار لعملية دارفور خلال ستة أشهر من صدور قرار تأسيس مجموعة قوات حفظ السلام في الإقليم «يوناميد».
قبل أسابيع خرج وكيل الأمين العام للشؤون القانونية نيكولا ميشال عن المألوف، ولبّى فضول الصحافة، مقدماً مقابلات ولقاءات صحافية مع عدد كبير من الصحف العربية واللبنانية، بينها «الأخبار». وكان يردد في كل اللقاءات أن المحكمة آتية كالقدر لتوقف الجرائم وتعاقب الفاعلين وتنهي عصر التسيّب الأمني في لبنان. ميشال كان يؤكد بانتظام أن التمويل ليس مشكلة، وأن الأموال ستأتي في حينها، علماً بأن الأموال يجب أن تكون قد أتت قبل اختيار القضاة والمقر. وفسر بعض المسؤولين في الأمم المتحدة ذلك بأن الأموال ستأتي بعد أن يتوصل التحقيق إلى طرف الخيط، ويصبح هناك متهمون في القضية، مؤكدين عدم وجود متهمين حتى الآن. إلى جانب حملة نيكولا ميشال، كان لافتاً قيام تيري رود لارسن، ناظر القرار 1559، بجولة شرق أوسطية الأسبوع الماضي، شملت الإمارات والسعودية ومصر. وإلى جانب بحثه في الشأن الرئاسي اللبناني، علمت «الأخبار» أن تمويل المحكمة الدولية كان بين أبرز ما بحثه في العواصم الثلاث. مع ذلك، لا تزال الإمارات ومصر تترددان في دفع أي مساهمة للمحكمة. ولولا مساهمة الكويت الأخيرة بقيمة 5 ملايين دولار، ما كان المبلغ ليكفي نفقات السنة الأولى (بما في ذلك التعهدات).
ولو راجعنا التصريحات التي أطلقت من كبار المسؤولين، لوجدنا العديد من الثغر التي يمكن النفاذ منها. أبرزها على الإطلاق التناقض في أرقام المساهمات التي تلقتها وتتلقاها المحكمة ومصادرها.
الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، قال في حديثه لقناة العربية قبل أسبوعين، إن المحكمة ما تزال في حاجة إلى 90 مليون دولار، وهو تكرار لما قاله في الرابع من شباط الماضي في مقر الأمم المتحدة. وحث الأمين العام الدول الأعضاء على تقديم المساهمة في صندوقها.
لكن الاستجابة لنداءاته كانت ضعيفة على غرار ما واجهه عندما ناشد الدول إرسال طائرات مروحية إلى دارفور. إذ تلكأت الدول في ذلك، لأن الطائرات لن تكون بإمرة الدول الغربية التي تود أن تستخدمها للقتال في الإقليم. وبعد لأي وجهد، تحركت روسيا وقدمت مروحيات للنقل، لا للقتال.
وفي المقابل، نجد أن مندوب الولايات المتحدة زلماي خليل زاد خرج من مجلس الأمن الدولي في العاشر من هذا الشهر ليبشر بأنه تم تعيين دانيال بلمار مدعياً عاماً للمحكمة، وتم تعيين 11 قاضياً من قبل الأمين العام قبل اختيار رئيس قلم. ولم يكن هناك أي خبر جديد في ما قاله باستثناء اختيار رئيس قلم المحكمة. لكنه عندما تحدث عن التمويل قال «وبلغ التمويل حتى 6 آذار الحالي 29.4 مليون دولار نقداً، و21.3 مليون دولار على شكل تعهدات»، مضيفاً، «وهذا المبلغ يتجاوز احتياجات السنة الأولى وبداية عمل المحكمة».
لكن تقرير الأمين العام الذي صدر أمس، يتحدث عن تعهدات اقتصرت على 16.408.637، أي بفارق 4.9 ملايين دولار عن الرقم الذي قدّمه المندوب الأميركي. كما أن بان تحدّث في تقريره عن أن الكلفة النهائية للمحكمة لم تُحَدّد بعد، وذلك مرتبط بأربع مسائل هي: عدد الشهود والمتهمين مع ما يعني ذلك من تفاوت في المصاريف المتعلقة بهم وببرنامج حماية الشهود. دراسة تكلفة تجهيز المبنى والشروع به. الإجراءات الأمنية الواجب اتخاذها، إضافة إلى عقود العمل مع العاملين في المحكمة.
ودون الإسهاب في تعداد التناقضات الكثيرة بين أقوال ميشال وبان كي مون، تبدو المسائل أمام الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي أعقد بكثير من جريمة الاغتيال المروعة التي أودت بحياة الرئيس الحريري.
الأمين العام يبدو أكثر حذراً وروية من وكيله القانوني، الذي يُقال إنه كان يستعجل تشكيل المحكمة قبل اكتمال تمويلها. فبان كي مون الذي كان يظن أن حل الأزمة الرئاسية اللبنانية بأيدي اللبنانيين، لزم الصمت النسبي أخيراً حيال هذا الموضوع، بعد إدراكه الأبعاد الخارجية للقضية. وهو لا يريد، بعد الفشل الذريع لمسيرة السلام في الشرق الأوسط، أن يسقط في لعبة التلويح بالمحكمة لمآرب دولية معينة، بالرغم من ضعفه أمام إدارة البيت الأبيض. لذا فسر البعض قرار نيكولا ميشال بالتنحي عن منصبه في آب المقبل «لأسباب عائلية وإدارية» بأنه وصل في مهمته إلى منعطف يفترق فيه عن الأمين العام.
الولايات المتحدة التي كانت تتلطى وراء القصاص من القتلة، جعلت بعد إرسال أساطيلها إلى المنطقة، واستهتارها حتى بأمن الحلفاء المفترضين، الكثير من الدول تجفل بشدة. أبرز هذه الدول أعضاء مجلس الأمن الدولي التي تختلف معها حول الكثير، وتعارض مواقفها علناً، وتعطل كل منهما بيانات الأخرى. ولا ننسى أنه لم يكن هناك إجماع على محكمة لبنان من الأساس، أي منذ صدور القرار 1757 الذي نال 10 أصوات وامتنعت 5 دول عن التصويت.