نقولا ناصيفلأن الخارجية الفرنسية نبّهت السلطات اللبنانية السياسية والعسكرية إلى ضرورة عدم انتقال الأزمة السياسية من بيروت إلى الجنوب، في ظلّ اعتقاد راسخ بأن الأزمة مستمرة وربما تطول، أولت اهتماماً خاصاً في نظرتها إلى الجيش. مغزى الاهتمام، بحسب دبلوماسي رفيع في الكي دورسيه، المحافظة على شرعية المؤسسة العسكرية وتماسكها. أما البديل من ذلك فهو انهيار القرار 1701 ودور القوة الدولية جنوبي نهر الليطاني لكونها موجودة هناك بسبب وجود الجيش اللبناني. هكذا ترى باريس في الجيش عاملاً رئيسياً وحتمياً لاستمرار مهمة جنودها وسائر الوحدات التي تتكوّن منها القوة الدولية، ويضمن احترام قرار مجلس الأمن والخط الأزرق وإدارة مجمل الوضع الأمني في المنطقة.
إلا أن أحداث الشياح ـ مار مخايل في 27 كانون الثاني عكّرت الصورة في ذهن الدبلوماسية الفرنسية التي وجدت فيها تهديداً مزدوجاً: للمؤسسة العسكرية وقائدها المرشح التوافقي العماد ميشال سليمان. وفي تقويمها أن تلك الأحداث أتت لتهدّد التوافق على سليمان وتستهدف الجيش بعد بضعة معطيات مترابطة: إعلان سوريا وحلفاؤها في المعارضة أن الرجل مرشح الغالبية النيابية، بعد أشهر على مواجهة الجيش «فتح الإسلام» في مخيم نهر البارد وخروجه منها منهكاً ومصاباً في عناصر مدرّبة لديه وفي قدراته. قالت المعارضة كذلك إنها لم تعد تثق بقائد الجيش. تالياً دخل الجيش، في نظر الفرنسيين، في دائرة الخوف عليه رغم صموده. وهو بالنسبة إليهم آخر معاقل الشرعية القوية التي تحمي النظام والبلاد. لكن بضعة تأكيدات سمعها الوفد الفرنسي، الذي زار بيروت قبل أسبوعين، من قائد قطاع جنوبي نهر الليطاني في الجيش العميد بول مطر عن تشبّث الجيش بمهمته، وتأكيد عزمه على مواصلة مكافحة الإرهاب وخلايا «فتح الإسلام» وسواه من التنظيمات المماثلة بكل الوسائل، عبّرت للوفد عن إرادة المؤسسة العسكرية حماية القرار 1701. يدفع ذلك الدبلوماسية الفرنسية إلى إبراز المواقف الآتية:
1 ـ لا يزال سليمان مرشح الإجماع الوحيد الذي أمضى اللبنانيون أربعة أشهر للتوصّل إلى مرشح يوافقون عليه. تقول إنها ليست مَن اختاره، بل اللبنانيون توافقوا عليه وانضمت إليهم الجامعة العربية. وتعتقد أيضاً أن عزوفه عن الاستمرار في الترشّح يجعل من المتعذّر إيجاد بديل منه، الأمر الذي يعيد هذا البند من التوافق اللبناني والتأييد العربي إلى نقطة الصفر. بل يذهب الدبلوماسي الفرنسي الرفيع إلى القول إن تخلي قائد الجيش عن ترشّحه يجعل حكومته تفقد الأمل في انتخاب رئيس جديد للبنان. ومن أجل ذلك تظل تدعمه.
وفي واقع الأمر، عرفت باريس بترشيح العماد سليمان مذ طُرِح للمرة الأولى على أراضيها قبل أن تقرّره الغالبية. قيل إن الرئيس المصري حسني مبارك في زيارته إلى العاصمة الفرنسية في الأول من آب 2008 تحدّث طويلاً مع نظيره الفرنسي نيكولا ساركوزي عن قائد الجيش اللبناني، وقيل إنه تحدّث عنه نحو ساعة بحسب ما نُسب آنذاك إلى الوفد الفرنسي المشارك في تلك المحادثات. كذلك قيل إن مدير المخابرات العامة المصرية الوزير عمر سليمان كان أول مَن اقترح على باريس اسم العماد سليمان مرشحاً. لم تفاجأ باريس في ما بعد بالاتفاق على سليمان، من غير أن تبادر هي إلى تبنّي ترشيحه. ما تريده، بحسب الكي دورسيه، انتخاب رئيس جديد أياً يكن المرشح التوافقي.
2 ـ ترجّح الدبلوماسية الفرنسية عدم انتخاب رئيس جديد قبل القمة العربية في دمشق نهاية هذا الشهر. وتعزّز وجهة نظرها نتائج اجتماعات وزراء الخارجية العرب في القاهرة قبل أسبوعين، وما كان سمعه وفدها إلى بيروت في ذلك الوقت من مسؤول العلاقات الدولية في حزب الله السيد نواف الموسوي من أنه لا انتخاب رئاسياً بمعزل عن اتفاق بين الموالاة والمعارضة، مشدّداً على الحل السياسي ومن ضمنه انتخابات الرئاسة. استنتج الوفد الفرنسي أن الاستحقاق هو الورقة الوحيدة الباقية في يد المعارضة ولن تتخلى عنها. تبعاً لذلك تقول باريس إن المخاطرة بالوصول إلى القمة بلا انتخابات، وبلا رئيس لبناني يشارك فيها، تكمن في خشيتها من أن تتبع ذلك أعمال فوضى وحوادث أمنية. لا تريد باريس لبنان عراقاً آخر، يجزم بذلك الدبلوماسي الرفيع.
3 ـ ما دامت مبادرة الجامعة العربية مستمرة، قبل القمة العربية وبعدها، فلن تعلن الدبلوماسية الفرنسية فشلها إلا إذا فعل العرب. بيد أنها تستبعد خياراً كهذا لأنه لا بديل من الحل العربي حتى إشعار آخر، وتأمل في تأييد دمشق المبادرة جدّياً. المبادرة العربية، في رأيها، أسود على أبيض. لا أكثرية مرجّحة ولا أقلية معطلة. إلا أن المعارضة تتمسّك بأحد خياري الثلث المعطل أو ضمانات صريحة تتصل بآلة حكم المرحلة الجديدة. بل يذهب الدبلوماسي الفرنسي إن الأزمة اللبنانية ليست دموية ومستعصية الحل على نحو أزمات العراق وإيران وفلسطين وأفغانستان.
4 ـ تنفي الدبلوماسية الفرنسية أي دور سلبي للأميركيين حيال مبادرتها اللبنانية بين أيلول وتشرين الثاني. لكنها تقول إنهم لم يضطلعوا بدور إيجابي. وعلى غرار تحفظهم عن اجتماع سل سان كلو في 14 تموز بمسعى فرنسي وعن مشاركة حزب الله فيه وأبلغوا ذلك إلى الخارجية الفرنسية، لم يشجعوا الاجتماع ولم يعرقلوا خطته، اضطلعوا بدور مماثل حيال المبادرتين الفرنسية والعربية تباعاً. ولأنه لا سياسة أميركية حيال لبنان، وتفضل واشنطن التصرّف ببراغماتية، أبلغ مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى دافيد ولش إلى الفرنسيين غداة إطلاقهم مبادرتهم أن واشنطن لن تساعدهم، ولكنها لن تمنعهم من العمل. قال أيضاً: إذا نجحتم في انتخاب رئيس جديد، فحسناً.
تلك إشارة من الدبلوماسية الفرنسية إلى تمييز واضح في طريقة مقاربة كل من واشنطن وباريس الملف اللبناني. يعتقد الكي دورسيه أن المشكلة الوحيدة لواشنطن مع لبنان هي حزب الله، وليس أي طرف داخلي أو زعيم طائفته كالرئيس نبيه بري والعماد ميشال عون. ولم يتردّد ولش في القول للفرنسيين لدى مناقشة مشكلة الحزب إن الشيعة اللبنانيين ينبغي أن يكونوا في قلب المعادلة الوطنية، مسجلاً في نظر باريس موقفاً غير متعارض مع دعم الأميركيين الشيعة العراقيين بالاعتراف بدورهم. إذا وقعت حرب بين إسرائيل وحزب الله تختار واشنطن الأولى، وإذا دخل الحزب في الحكومة اللبنانية تتقبّل ببراغماتيتها واقع مشاركته فيها من غير أن تحاوره. في اختصار تبعاً لنظرة باريس إلى أولوية واشنطن: عاطفتها مع إسرائيل ومصلحتها في العراق.