إسماعيل وأحمد «دليلان» لأكثر من 6 آلاف رقم هاتفنقولا أبو رجيلي
يعرفهما معظم أهالي البقاع لأنهما يحفظان غيباً كلّ أرقام الهواتف رغم فقدانهما البصر. لكن لدى اسماعيل وأحمد أبو شامي، التوأم الذي يعمل منذ ثلاثين عاماً في سنترال زحلة، المزيد للحديث عنه، وشكر الله عليه

«قوة الإيمان والإرادة يصنعان الإنسان» عبارة تكاد تتحوّل إلى «كليشيه»، لكن الأمر يختلف حين يردّدها أحمد أبو شامي (60 عاماً) بلسانه، ولسان توأمه إسماعيل.
أحمد وإسماعيل من بلدة كفردينس (قضاء راشيا الوادي)، فقدا النظر تدريجياً في الخامسة عشرة من العمر بعد إصابة بمرض التهاب الصبغة الشبكية، ما منعهما من متابعة تحصيلهما العلمي في مدرسة بلدتهما الرسمية، حيث كانا حصلا على شهادة «السرتفيكا» أو الخامس الابتدائي.
يتذكر أحمد أنه «نظراً لتفوقنا في الصفوف الابتدائية، رفّعتنا إدارة المدرسة من الصف الثاني إلى الصف الخامس، ونلنا شهادة بدرجة ممتازفقدان البصر لم يثنِ التوأمين عن تحقيق طموحهما بمتابعة الدراسة، فقررا الالتحاق بمعهد الضرير في بعبدا، المتخصص بتعليم المكفوفين على الأحرف النافرة (BRIL) وتأهيلهم عام 1962، وتخرّجا عام 1973 بشهادة الثقافة العامة البريطانية (GST) لعدم وجود مدارس ومعاهد لبنانية تعنى بأوضاع المكفوفين آنذاك. «الفضل الكبير يعود للسيّدة وداد بارودي لحود التي كانت بمثابة الأم الروحية لجميع الطلاب، وأنتهز هذه الفرصة لأتوجه إليها بالتحية مع تمنياتي لها بطول العمر» يقول أحمد.
عام 1973 كان بداية مشوار العمل. بمساعدة من الأم ماري أندريه كرم التي كانت تشغل منصب رئيسة مستشفى زحلة الحكومي، عُيّن أحمد وإسماعيل عاملَي سنترال بموجب قرار وزاري، رغم صعوبة توظيف المكفوفين في ذلك الحين. لم يمض وقت طويل حتى أثبتا جدارتهما في العمل.
ثلاثون عاماً مرّت على مزاولتهما هذه المهنة. يتناوبان منذ ذلك الوقت على تأمين الاتصالات الهاتفية لمقسم هاتف مستشفى زحلة الحكومي، وقد أثبتا خلال ممارسة وظيفتهما جدارتهما بتلقي المكالمات الهاتفية الداخلية والخارجية وتحويلها، بل أكثر من ذلك، تختزن ذاكرتاهما آلاف الأرقام الهاتفية، كما يؤكد المسؤول السابق عن شؤون الموظفين في المستشفى رزق أبو فيصل.
يستفيض أبو فيصل في الحديث عن المواهب المتعدّدة التي يتمتع بها الشقيقان من نواح عديدة. فبالإضافة إلى تحويل الاتصالات إلى الأقسام الداخلية وتلبية طلبات الموظفين، يكفي أن يسمع أحدهما صوت المتصل مرّة واحدة ليأتيه الجواب في الاتصال الثاني «أهلاً بفلان» ذاكرين اسمه أو كنيته.
ولا ينسى ما حصل معه قبل سنوات، عندما رفع سماعة هاتف مكتبه ليقول له إسماعيل «أبو سمير، معي على الخط توفيق ابن عمك، خَي مرتك، بدو يحكي معك ويمكن صرلو شي أربع سنين ما حكي معك»، مع أن المتصّل لم يذكر اسمه آنذاك واكتفى بالقول: أعطني أبا سمير. «باختصار، هذان الرجلان يُعدّان قاموساً للأرقام الهاتفية».
يؤكد أحمد أنه يخزّن في ذاكرته «أكثر من ستة آلاف رقم هاتفي لمؤسسات رسمية وخاصة وأشخاص أذكر أسماءهم وعناوين سكنهم، ونحو ألف رقم خلوي بعد استحداث هذه الخدمة قبل 10 سنوات». أكثر من ذلك، تلقى أحمد، أثناء إجراء المقابلة معه، اتصالاً هاتفياً من سيدة طلبت منه عنوان مبنى مجلس الخدمة المدنية في بيروت وكيفية الوصول، فزوّدها بكل دقة بالعنوان قبل أن يتابع الإجابة عن الأسئلةأبو فيصل الذي كان المسؤول المباشر عن إسماعيل وحسين لأكثر من 20 عاماً، يؤكد أنه لم يتلقّ يوماً شكوى بحقهما من الأطباء والممرضين والموظفين في المستشفى وروّادها. ويلفت إلى أن أحدهما لم يغب يوماً عن وظيفته من دون إذن شرعي، «الإجازة السنوية غير واردة في قاموسهما، وحده المرض، لا التمارض، كان يمنع أحدهما من الحضور إلى المناوبة، فيتولى توأمه العمل مكانه ولو امتدّ الأمر لأيام».
يتحرّك التوأم أبو شامي بحرية كاملة في المستشفى، ويؤكد أبو فيصل أنه لا يذكر يوماً شاهد فيه أحدهما يصطدم بالجدران أو الأبواب «طريقة انتقالهما من منزلهما القريب من مبنى المستشفى في منطقة المعلقة كانت تثير الدهشة، وكأنّهما حفظا المسافة والمسالك والأدراج عن ظهر قلب». كما لا يذكر أبو فيصل أنه لاحظ يوماً أحدهما مرتدياً ثياباً متّسخة «قبل زواجهما وبعده، ألوان ثيابهما كانت دوماً منسّقة، بما فيها ربطة العنق والجوارب، وكلّ منهما يحرص باستمرار على حلاقة ذقنه دون إحداث أي خدوش في وجهه».
خدماتهما تخطت حدود المستشفى. السنون الطويلة أكسبتهما خبرة في كيفية متابعة المعاملات في معظم الدوائر الرسمية، ولم يبخل أي منهما بالمساعدة في تأمين حاجة المواطنين، سواء من ناحية تسهيل أمورهم بواسطة الهاتف، أو إرشادهم بالطرق الأسهل للوصول إلى مبتغاهمأعمال أخرى يتقنها الشقيقان، منها الطباعة على الآلة الكاتبة من دون الوقوع في أخطاء القواعد والإملاء، حياكة كراسي الخيزران خارج أوقات الدوام، ممارسة هواية العزف على الآلات الموسيقية.
يقول أحمد إنه يجيد حياكة الكنزات الصوفية والتدريب على صناعتها بواسطة الآلة المخصصة لهذه الغاية نوع (باسات). وهو يهتمّ بتأهيل المكفوفين لتشغيل جهاز الكومبيوتر المزوّد ببرنامج ناطق باللغة العربية وآخر للغة الأجنبية، وبآلة لنسخ المعلومات عبر جهاز خاص بالأحرف النافرة. كما يجري دورات عديدة على أجهزة السنترال الخاصة بالمكفوفين. الوقت ثمين كما يقول، لذلك يملأ ساعات الفراغ بـ«تقشيش» الكراسي. ومن هواياته أيضاً العزف على الآلات الموسيقية مثل الكمان والعود، وهو من مؤسسي جمعية حرمون لمساعدة ذوي الحالات الخاصة وتدريبهم على الأحرف النافرة واستخدام (العصا البيضاء) المخصصة للمعاقين، ولا سيما المكفوفين، من خلال نشاطات جماعية، أو زيارتهم في منازلهم، والغاية هي تأهيلهم ضمن البيئة تحت شعار «لا تطعمني سمكة بل علّمني كيف أصطاد».
تسببت الأوضاع الاقتصادية بتأخير زواجه حتى العام 1992. رزق بثلاثة أولاد: هشام وحسام وآسيا. وعن أوضاعه المادية يجيب بعد لحظات من الصمت «بعد 35 سنة من العمل لم يتجاوز راتبي الـ700 ألف ليرة لبنانية، عدا التعويض العائلي وبدل النقل، وأطالب الدولة بإنصافي واعتبار ما أمارسه من أعمال فنّياً لا عادياً، ولحظ مبلغ اختصاص على ممارستها». وذكّر أحمد أنّه لم ينل طيلة مدة عمله أي إجازة سنوية أو مرضية، بل واظب على الحضور إلى عمله حتى خلال الحرب الأهلية وإبّان الاحتلال الإسرائيلي لبلدته كفردينس التي تبعد عن مركز عمله في زحلة نحو 45 كلم، ما اضطره، لفترة طويلة، إلى سلوك طريق الجنوب ـ بيروت ـ البقاع، للوصول إلى المستشفى «ساعات طويلة قضيتها على الحواجز التي عبرتها سيراً على الأقدام لعدم وجود وسيلة نقل».
رغم ذلك، يرى أحمد أنّ الحياة أنصفته. وبعد شكره الخالق يختم بالقول «أعتقد أنّ ما حققته في ظروف حياتي هذه لم أكن لأحقّقه في الحالة الطبيعية».


تاريخ الزواج
كل ما أضافه اسماعيل أبو شامي إلى كلام شقيقه، عن عمله وحياته، لا يتعدّى بعض التوضيحات لجهة التواصل مع أصدقاء في جميع أنحاء العالم عبر الانترنت للتعارف وتبادل المعلومات بمساعدة الاجيال القادمة.
غير ذلك هما متشابهان، ولا يفرقهما إلا الزواج والسكن. يقول اسماعيل "بعد ان كنا نتقاسم منزلاً واحداً في محلة المعلقة (مدينة زحله) قبل الحرب الاهلية اصبح كل منا يسكن منزل خاص به في بلدتنا كفردينس".
اختلاف آخر في تاريخ الزواج، إذ سبق اسماعيل شقيقه بـ 12 عاماً، وله أربعة أولاد "سامي، أيمن، دنيا وغادة. جميعهم يتابعون تحصيلهم العلمي". خلاصة الحياة كما يوردها أبو سامي أنّ "لكلّ انسان على وجه الارض مشكلته، يمكن ان تكون مشكلتي ظاهرة للعلن اما معاناة الكثيرين تبقى طي الكتمان عند أصحابها".