للعام التاسع على التوالي، احتفلت اليونسكو باليوم الدولي للغة الأم في 21 شباط الفائت. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أعلنت عام 2008 سنة دولية للغات. يأتي هذا في وقت تشهد فيه العربية تراجعاً ملحوظاً في الاستعمال في الشارع اللبناني والمدارس أيضاً. ما هو واقع هذه
اللغة عند الأطفال


مهى زراقط
بات مشهداً طبيعياً في لبنان أن تجلس في مكان عام وتسمع فيه الأهالي يتحدثون مع أبنائهم بلغة أجنبية. تتكرر أسئلة الأمهات لأولادهم عما يريدون شراءه، وما يجب تناوله، وما تجوز مشاهدته. في السابق، كان الأمر محصوراً بطبقة واحدة من اللبنانيين، أو بالأجانب المقيمين هنا. لكنه اليوم تحول إلى ظاهرة عامة، تبدو لافتة أكثر حين يكون الطفل هو من يصرّ على عدم الحديث باللغة المحكية. في السابق أيضاً، كانت الشكوى من الـ«signal» الذي يرافق التلاميذ في استراحتهم إذا تفوّهوا بكلمة عربية، فيما يمكن القول إن العكس بات صحيحاً اليوم. أمثلة:
«لا أستطيع»«ما فيي».
ويفاخر ماهر (9 سنوات) بخطه الجميل. لا يملّ من استعراض مهارته في كتابة ما يتعلّمه في المدرسة من عبارات جديدة... كلّها باللغة الإنكليزية «عربي!!!... لأ، don’t like it». يقول بجدية تدفعه إلى مغادرة الغرفة ما دام المحيطون به مصرّين على سؤاله عن اللغة العربية «مش حلوة وخلص».
أما ريم، ابنة الأربع سنوات، فهي قادرة على إجراء محادثة كاملة مع أمّها باللغة الفرنسية. وهي مستمعة جيّدة للأغاني الفرنسية، وتردّدها بطلاقة الأطفال في سنّها. أكثر من ذلك. ريم، التي تعرف مهارتها بالفرنسية، وتستخدم هذا الأمر لكسب المزيد من الاهتمام بها، بات يزعجها جهل والدها للفرنسية وإتقانه الإنكليزية فقط. عندما سألها مرة، لدى متابعتهما معاً أحد برامج الأطفال، عمّا قالته المقدّمة أجابته: «papa، أنت لا تعرف، إنها تتحدّث بالفرنسية».
في صباح اليوم التالي، أعادت المحطة بث حلقة البرنامج نفسه. جلست ريم «مستنفرة» في انتظار الكلمة الفرنسية، التي ما كادت تتفوّه بها المذيعة حتى سارعت إلى القول لوالدها: «مش هلّق تسألني شو يعني؟ هيدا français، أنت لا تعرفه».
مي، ماهر، وريم تلامذة في ثلاث مدارس مختلفة، وتعدّ راقية، من مدارس بيروت. ويتجاوز رسم كلّ مدرسة من هذه المدارس ألفي دولار يبدو أن الأهالي مستعدون لدفعها من أجل مستقبل أفضل يتيحه «صيت» هذه المدارس وتسهيلها الانتساب إلى جامعات معيّنة، إضافة إلى أنها مدارس «تجعل طفلنا متمكناً من اللغة الثانية».
هذا التفكير البعيد الأمد، من الأهالي، يدفع إلى التساؤل عن سبب عدم التفكير في تمكين الطفل من اللغة الأولى أصلاً، أي اللغة العربية. وهنا، نطرق لبّ المشكلة: لكنّهم يتحدثون العربية يومياًفهل هذا صحيح؟
العامية لهجة أم لغة؟
نعود إلى مي مجدداً. القصة التي حملتها معها من المدرسة هذه المرة كانت باللغة العربية. وكعادتها راحت والدتها غادة تقرأها لها. تروي: «القصة عن طفلة تستيقظ صباحاً، ترتب سريرها، تقبل أمها، تتناول طعامها... أي عن تفاصيل يومية. فوجئت وأنا أقرأ أني مضطرة لشرح معظم الأفعال التي قامت بها بطلة القصة، من الفصحى إلى العامية». الأمر مختلف تماماً عندما تكون القصة بالفرنسية، «أقرأ بطلاقة، كلمات قد لا أفهمها أنا، لكنها لا تطرح عليّ أي سؤال». لكن غادة تعترف بأنها تتحمل جزءاً من المسؤولية: «منذ البداية كنت أشتري لها القصص الفرنسية لا العربية»، لافتة إلى أن المدرّسة طلبت منهم في الاجتماع الشهري أن يتحدثوا مع أطفالهم بالعربية في البيت «لكن ابنتي اليوم لا توافق إلا على الحديث بالفرنسية».
يوافق وفيق على وجود فارق كبير بين العامية والفصحى. «معاناته» مضاعفة مع ولديه اللذين عاد بهما إلى لبنان من لندن ليتعلما لغتهما. «يجب أن يعرف الطفل أن غداً تعني بكره، وأمس تعني امبارح...».
ويعترف بأنه يكاد يبكي كلّ مرة يجلس فيها مع ابنه ليدرّسه، لأنه يجد صعوبة في شرح دروس اللغة العربية له، رغم إتقانه لها. يعطي مثالاً عن واحدة من الصعوبات اليومية التي يواجهها مع ابنه. كيف يكتب حرف الياء في أول الكلمة، وسطها ونهايتها. «هناك كلمات لا تخضع لقاعدة، مثل كلمة ويلي، كتب حرف الياء هنا، كما لو أنه في أول الكلمة». هذا لجهة الشكل، المشكلة الثانية في المعاني التي لا يسمعونها في حياتهم اليومية. مثل ثان: طلب منه مرة أن يختار الأفعال التي تناسب الأسماء التالية: البرق، الرعد، المطر. كان صعباً أن أشرح له كيف أن الرعد يدوّي، في حين أن الطفل ربط بين فعل يدوّي والضوء (يضوّي) الذي يترافق مع البرق، ولم يربطه بالصوت
ودويّه.
«لغة تهمّني»
ليس الواقع مأساوياً إلى هذا الحدّ إذا ابتعدنا قليلاً عن مدارس بيروت الراقية، أو طرقنا باب بعض المناطق النائية.
ها هي زهراء (5 سنوات ونصف) تجيب عن الأسئلة التي تنهال عليها تباعاً باللغة الفصحى. تسمعها تقول بخجل: «نعم أحب الحديث بالفصحى... لأنها تهمني... ماما قالت لي إنها مهمّة... أحب معلمة العربي والإنكليزي مثل بعض... أفيق باكراً».
زويا، الوالدة، كانت حريصة على تمكين ابنتها من العربية أكثر من الإنكليزية، «يمكن لأني أحب هذه اللغة كثيراً»، مؤكدة أن هذا الأمر لن يؤثر على إتقانها للغة ثانية «كما ستتقن مواد تعليمية أخرى لا شك أنها ستتقن الإنكليزية».
نور (7 سنوات) لا تواجه إطلاقاً مشكلة في اللغة العربية، تؤكد رولا، الوالدة. تضحك وهي تخبر كيف أن ابنتها لا تفهم أين أخطأت عندما كتبت، أن عكس فعل رفضت، هو لم ترفض. تسأل والدتها التي تعلّمها: «أليس صحيحاً ما كتبته؟ لماذا وضعت لي المعلمة خطاً أحمر
تحتها؟».
«في حالات مماثلة قد أعجز عن الشرح» تقول رولا: «لكن عموماً لا أواجه مشكلة لغة لدى ابنتي، لأني عودتها منذ كانت طفلة أن أقرأ لها كلّ مساء قصة باللغة العربية». نور تتقن الإنكليزية أيضاً، وفي صف اللغة هي قادرة على طرح الأسئلة والإجابة عنها باللغة الثانية. تقول الوالدة: «أعتقد أن دوري كان أساسياً، لأني كنت قد التفتُّ إلى هذه المشكلة مع أولاد أشقائي ولم أحب أن أكرّر تجربة خاطئة مع ابنتي».
لكن الوضع ليس مماثلاً بالنسبة إلى محمد (9 أعوام)، المتفوّق باللغة العربية، لكنه لا يتقن الفرنسية. في المدرسة الرسمية التي يتعلّم فيها في الجنوب «توفق» بأستاذ يحب العربية، ومعلّمة لا تعرف من الفرنسية أكثر مما يعرفه هو. يقول عمّه إن مشكلة اللغة الثانية «عامة» في المناطق النائية والمدارس الرسمية.
القواعد أسهل من القراءة!
تؤكد رانيا، معلّمة لغة عربية لصفوف الحلقتين الأولى والثانية (الابتدائي) في واحدة من المدارس الرسمية أنها تلاحظ ضعفاً عاماً لدى التلاميذ، «ليس العربية فقط، اللغات الثانية ليست أفضل حالاً».
قبل أن تشرح رانيا عن تلاميذها، تكشف أنها هي نفسها لم تختر دراسة اللغة العربية في الجامعة، بل فرضت عليها بعد فشلها في دراسة اللغة الفرنسية. «رغم ذلك تابعتها ونجحت فيها». وهي لا تخفي مواجهتها لمشاكل في تعليم اللغة «وخصوصاً القراءة، حيث يعجز التلاميذ غالباً عن تقديم تحليل لصورة الدرس، وإذا نجحوا في ذلك فهم يعجزون عن التعبير عنها باللغة الفصحى فيستخدمون مفردات عامية».
سناء، معلمة لغة عربية للصفوف المتوسطة تكشف عن مشكلة أخرى: «قلّما أجد مفردات جميلة في مواضيع الإنشاء... لكن الكارثة تكون عندما أجد مفردات عامية في الموضوع». سناء التي تعشق العربية والشعر العربي القديم، لا تخفي شعورها بالعجز عن «تحبيب» طلابها باللغة التي تحبّ، إذ تقول: «يشعرونني باليأس، كلّ ما يعنيهم من اللغة الحصول على علامة».


نحو لغة للحياة
لا ينكر أستاذ اللغة العربية غازي أيوب وجود ضعف في اللغة العربية، لكنه يرفض القول إنها إلى تراجع أو إنها تتخلّف. «اللغة لا تتخلّف، الناس يهجرونها».
رغم ذلك، هو يحمّل المسؤولية أيضاً للقيمين على هذه اللغة، ولا سيّما معلّموها. ويذكر حادثة أثّرت به عندما كان يعلّم في سلطنة عمان، حيث سأله مستشرق انكليزي: لماذا تعلّمون اللغة؟ أجابه مستخدماً التعريف الأكاديمي المعروف للغة: إنها وسيلة تواصل بين الناس والشعوب...
قبل أن يكمل إجابته، قاطعه قائلاً: حدّد هدفك. نحن مثلاً ندرّس اللغة الإنكليزية لكي يكتب الطبيب تقريره بلغة إنكليزية صحيحة، ولكي يقرأ مذيع الـ«بي بي سي» بلغة صحيحة... هذه هي اللغة التي نعلّمها: لغة الحياة. أما اللغة الفنية التي تحبون تدريسها، فهي لا تدرّس.
يسوق أيوب هذا المثل ليقول إن أساتذة اللغة العربية يريدون أن يكون كل تلميذ أدب عربي شاعراً أو أديباً. «قال لي: كم شاعراً عندكم؟ كم متنبي؟ نحن عندنا شكسبير واحد».
«توقفت أمام كلام هذا المرشد التربوي وصرت أحاول جاهداً أن أعلّم اللغة وفق هذه المنهجية. ليس مطلوباً من التلميذ أن يكون شاعراً أو أديباً في المرحلة المتوسطة».
العلاج برأيه يكون أولاً في وعي الأهل وفي أن تأخذ عملية التعليم شكلاً آخر، مثل إبداع نصوص إلى جانب النصوص المدرجة في المنهج. أما بالنسبة إلى القواعد «فلنعلّم ما يُستعمل فقط، ولمن يريد التعمّق أن يفعل هذا بنفسه، لماذا يتعلّم التلميذ أربع سنوات المبتدأ والخبر؟». كما أنه ليس مطلوباً أن نعلّم اللغة وفق ألفية ابن مالك، لأن التلميذ اليوم لا يريد أن يحفظ، ولا أن يحلّ حزازير. يتقن التلميذ اللغة من خلال وظيفتها. برأيي يكفي أن يتقن المفردات التي تلزمه في الحياة اليومية ويحسن استعمالها بشكل صحيح».