جان عزيزيتساءل مصدر سياسي مطّلع، عن سر هذه الأخطاء غير القابلة للتصديق، في حسابات التقدير لدى بعض المسؤولين والفاعلين. يعرفهم المصدر المقصود منذ عقود، ويعرف المقدار الكافي في ذكائهم وخبراتهم وحنكتهم، ما يدفع إلى الاعتقاد أحياناً، بأن هؤلاء لا يخطئون، إلا متى كان قرارهم وخيارهم وإرادتهم في أن يخطئوا، لسبب ما وخلفية ما وهدف ما.
يبدأ تساؤله مع عمرو موسى، ففي اتصال هاتفي قبل أيام قليلة، قال الأمين العام لجامعة الدول العربية لمحادثه، إنه عاتب جداً على سوريا، بسبب عدم ممارستها ما يكفي لإقناع حلفائها في لبنان، غير أن الجواب الذي سمعه موسى كان مفصلاً، وفي شقين مسهبين: أولاً: كيف لدمشق أن تقنع من تطلق عليهم تسمية حلفائها، بإلغاء أنفسهم، وبالتالي، فإن انتظار ذلك من العلاقة بين هؤلاء يحمل خطأً مزدودجاً، خطأ أن تتوقع من سوريا خسارة أوراقها مجّاناً، وخطأ أن تتوقّع من المعارضة اللبنانية التضحية بنفسها كرمى لدمشق، وهو ما لم يفعله أصدقاء الأخيرة، حتى يوم كانت في بيروت، فكيف وهي خارج لبنان، والشق الثاني من الجواب الذي سمعه موسى: وهل في المقابل تمكّنت الرياض مثلاً من إقناع حلفائها اللبنانيين بسلسلة التسويات التي وافقت عليها، بدءاً باتفاقها الشهير في كانون الثاني 2006، وصولاً إلى المبادرة القطرية العمانية أمس، مروراً بلائحة بكركي الرئاسية.
لم يخطئ عمرو موسى قطعاً، في تقدير كل ذلك، إلا إذا كان قد أراد أن يخطئ...
ويكمل المصدر السياسي تساؤله، ليصل إلى ممثل الموالاة في لقاءات ساحة النجمة الرباعية: كيف يخطئ الرئيس أمين الجميل في تقدير دوافع الموقف الذي يتخذه العماد ميشال عون، وآفاقه؟
هل بات الجنرال موضع شكّ من جانب الجميل تحديداً، في مسألتي رهانه على مفهوم الدولة، وتصلّبه في ثابتة السيادة؟ لكن ألم يكن الجميل نفسه هو من وقّع ليل 22 أيلول 1988، مرسومين، يجعلان من عون رئيساً لكل شيء تقريباً؟ ولماذا أقدم رئيس الجمهورية الأسبق على ذلك الخيار، فيما كانت ثمة احتمالات أخرى متاحة؟ ألم يفعل من منطلق تيقُّنه بأن عون هو الأقدر على الدفاع عن الدولة ومفهومها، في وجه مفهوم الدويلة وناسها وتنظيماتها، وهو الأصلب لعدم التنازل عن مقوّمات السيادة وثوابتها؟
تغيّر الجنرال؟ لنسلِّم جدلاً بذلك، لكن إلى ماذا يمكن أن يبلغ موقفه اليوم في التفاوض القائم؟ ألا يهدف إلى تحصيل مكتسبات مسيحية ميثاقية، ستكون لسواه حتماً، وليس له؟ ألا يبدو مشروعاً استشهادياً بالمعنى السياسي، يحصِّل إنجازاً أضاعه الطائف، ويقدّمه إلى رئيس سواه؟
لم يخطئ أمين الجميل في قراءة ما سبق، إلّا إذا قصد ألّا يقرأ...
ويختم المصدر نفسه بالتساؤل: وكيف يخطئ البطريرك الماروني في تحميل الفريق الشيعي مسؤولية تعثر الاستحقاق الرئاسي؟
وخصوصاً أن سيد بكركي يعرف تماماً ملابسات مبادرته حيال ذلك الاستحقاق، وحيثيات ما انتهت إليه لائحته الرئاسية الشهيرة في تشرين الثاني الماضي.
يومها وضع البطريرك لائحة سداسية شكلاً، لكنه والجميع يدركون، أنها كانت أُحادية فعلاً ومضموناً، فميشال عون ونسيب لحود وبطرس حرب مستبعدون بدايةً. ثم ميشال خوري في لقاء قرنة شهوان وروبير غانم مشوب بأكثر من اعتراض وملاحظة، هكذا كان جلياً لكل الداخل والخارج، أن سيد الصرح أراد اسماً واحداً للرئاسة هو ميشال إده. فمن هو الطرف الذي عرقل تسميته وأعاق تزكيته؟ هل هو شيعة المعارضة، أم مسيحيو الموالاة وسنَّتها، الأقرب إلى البطريرك والأكثر التصاقاً بصرحه حتى الخناق؟
لم يخطئ سيد بكركي في إدراك تلك الحقيقة، إلا إذا رمى ذلك عمداً...
كيف يقع هؤلاء العارفون المجرّبون في أخطاء كهذه؟ يقعون فيها عفواً وسهواً، في حال واحدة، إذا كان ثمة رهان في مكان ما، على حدث كبير وشيك محتوم، وسيغيّر كل الصورة القائمة، وسيقلب الأوضاع والموازين، وسيجعل من كل التفاصيل والمساعي والمبادرات الآتية الراهنة، مجرد وقت ضائع وتعبئة للفراغ بغير المناسب.
هل هي نظرية الحرب الآتية، أم الضربة العسكرية المحدودة؟ لا ينفي المصدر السياسي المطّلع، بل يشير إلى أن معطيات التمسك بتلك المقولة، رائجة جداً في الأوساط المقصودة. لكن كيف لمثل هذه النظريات العسكرية أن تُترجم سياسياً في حسابات الموالاة؟ يجيب المصدر: هذه مسألة تقرّرها واشنطن وحدها، على قاعدة معالجة أي مشكلة بإحداث مشكلة أكبر. والباقي على عاتق المراهنين.