نقولا ناصيفتبدو العلاقات الفرنسية ـ السورية عصيّة على الفهم. باريس ترسل إشارات وتحاور وتطلب، فتُقابَل بتجاهل ولامبالاة. ودمشق ترسل إشارات وتحاور وتطلب، فتُقابل بأجوبة معاكسة. كلتاهما تلعب في لبنان دور دولة عظمى، لكن حوارهما متعذّر النجاح لاختلاف نظرة كل منهما إلى لبنان. بعد حسم التباين في الرأي بين الرئاسة الفرنسية والخارجية، أضحى الملف اللبناني في عهدة الأولى التي تنسّق مع الكي دورسيه: في الإليزيه بين أيدي الرجل القوي أمين الرئاسة كلود غيان ومعاونيه المستشار الدبلوماسي للرئيس جان دافيد ليفيت وبوريس بوالون، وفي الخارجية بين أيدي الوزير برنار كوشنير ومعاونيه موفده السفير جان كلود كوسران ومستشاره كريستوف بيغو ورئيس دائرة الشرق الأدنى جان فيليكس باغانو ومعاونه لودوفيك بوي (ومعاوني الأخير تييري فالا وجان كريستوف أوجيه). بعد قمة شرم الشيخ في 28 كانون الأول الماضي، حسم الرئيس نيكولا ساركوزي الخلاف لمصلحة فريق عمله، إذ قطع الاتصال بسوريا تماماً، إيذاناً بالعودة إلى القاعدة التقليدية: الإليزيه يرسم السياسة الخارجية والكي دورسيه ينفذها.
منذ قمة شرم الشيخ لا حوار بين باريس ودمشق. لا سفير لسوريا مذ انتهى انتداب السفيرة صبا ناصر، فحلّت محلّها القائمة بالأعمال شغف كيالي. في المقابل، لفرنسا سفير في سوريا منذ تموز 2006 هو ميشال دوكلو خلفاً لجان فرانسوا جيرو. وبحسب دبلوماسي رفيع في الخارجية، الحوار بين البلدين معلّق وليس مقطوعاً. تراجع عن المستوى الذي كان قد بلغه بين أيلول وتشرين الثاني بعد اتصالات أجراها ساركوزي بنظيره السوري بشار الأسد، بالتزامن مع لقاءين عقدهما غيان موفداً من ساركوزي مع الأسد في تشرين الثاني. بعد قمة شرم الشيخ وخيبة باريس من إصرار دمشق على عرقلة انتخاب رئيس جديد للبنان، بات الحوار يقتصر على تبادل رسائل بين السفارتين. لكن الدبلوماسي الفرنسي الرفيع يحدّد المعطيات الآتية:
1 ـ لا قرار بمعاودة الحوار مع سوريا حاضراً. وهو ليس قراراً برسم الأبد. لم تظهر حتى الآن رغبة جدية في التعاون. ولذا لن يعاود غيان ولا كوسران الحوار معها.
2 ـ لم تشعر باريس بتعاون الحد الأدنى من دمشق مذ بدأت أزمة الرئاسة اللبنانية، مع بدء مهلتها الدستورية وحتى الأمس القريب، إلا أسبوعاً واحداً، هو الأسبوع الذي سبق أو تلى الأيام الأخيرة من ولاية الرئيس إميل لحود. كان أسبوعاً إيجابياً ـ يصفه الدبلوماسي الفرنسي الرفيع ـ لأن باريس رغبت في مغادرة لحود السلطة بسلام دون فوضى ولا افتعال أزمة إضافية، ولا تأليف حكومة ثانية كما هدّد قبلاً. كانت تلك إشارة ذات دلالة من دمشق إلى إدراكها مغزى الاتصال الفرنسي بها، فلم تشجّع انهيار الوضع في لبنان. ولأن سوريا شاركت بعد يومين من رحيل لحود في مؤتمر أنابوليس (25 تشرين الثاني)، كانت قد تلاحقت قبل ذلك، وفي ما بعد، سلسلة اتصالات أبرزها اجتماع كوشنير بنظيره السوري وليد المعلم في اسطنبول وذهاب غيان إلى دمشق، وبدا الأسبوع الإيجابي قابلاً للتمديد، وخصوصاً مع طرح اسم قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. لوهلة ظنّت باريس أنها قاربت الحل. لكن دمشق خيّبت آمالها. وفرنسا اليوم تنتظر منها رسائل إيجابية كي تعاود معها الحوار، وأوّلها تسهيل انتخاب مرشح التوافق اللبناني رئيساً.
3 ـ لم تقل باريس مرة إن حوارها مع دمشق يتوخى التفاوض على الملف اللبناني. التفاوض يأتي لاحقاً ويكون الاتحاد الأوروبي شريكاً فيه. لم تقل إن سوريا تشنّ حرباً على لبنان، ولم تحمّس غلاة المنادين بإقفال الحدود بين البلدين، بل دعت إلى بناء علاقات متكافئة بينهما، وانتخاب رئيس يعدّ لهذا الهدف، فيصار إلى اتخاذ إجراءات متبادلة، أبرزها فتح سفارتين في بيروت ودمشق وإقامة علاقات دبلوماسية ورسم الحدود. لكن باريس لمست تصرّفاً مختلفاً. في خلاصة الأمر، لا تريد الحوار هدية مجانية لدمشق. فكرة الهدية تقلق الفرنسيين ولا يحبّذونها. عندما وصلت المدمّرة الأميركية «يو أس أس كول» إلى قبالة المياه الإقليمية اللبنانية في 2 آذار الماضي، كان ردّ فعل الدبلوماسية الفرنسية أنها هدية مجانية لدمشق وخطأ جسيم. لم تعرف بها السفارة الفرنسية في واشنطن إلا قبل ساعات من إعلان الأميركيين اقترابها من لبنان. لم يُستشر الفرنسيون، فامتعضوا وأرسلوا إلى الأميركيين ملاحظات صريحة. رأوا أن الخطوة رمت إلى إعطاء الغالبية النيابية سلاحاً سياسياً إضافياً، فإذا بها تعزّز وجهة نظر المعارضة حيال التدخّل الخارجي في الشؤون اللبنانية.
4 ـ لم تفهم باريس بعد دوافع انقلاب السوريين على أنفسهم من ترشيح سليمان رئيساً. وبعدما كان مرشّحهم، باتوا يعدّونه مرشحاً غير ملائم، وأحياناً يقولون إنه مرشح غير جيّد. في الخريف، تبلّغت فرنسا من دمشق بالواسطة أن قائد الجيش يمكن النظر إليه كمرشح مقبول، وإن لم تدعم الغالبية ترشيحه. الآن انقلب الموقف السوري، وباتت دمشق تلح على ضمانات في مجلس الوزراء لتعزيز موقع المعارضة في السلطة.
5 ـ تصرّ الخارجية الفرنسية على القول إنها لا تقف مع فريق لبناني ضد آخر. وحرصت على الحصول من الزعماء الرئيسيين، كالرئيسين نبيه بري وفؤاد السنيورة وحزب الله والنائب سعد الحريري، على ضمانات جدية بتجنيب لبنان نزاعاً سنّياً ـ شيعياً لئلا يتحوّل عراقاً آخر. في المقابل، لا يخفي الدبلوماسي الفرنسي الرفيع نزوعاً إلى أن باريس لا تريد ليَّ ذراع قوى 14 آذار التي تخوض معركة الاستقلال والسيادة، ولا هزيمتها أمام المعارضة، وتنظر بواقعية إلى دور حزب الله وموقعه في المعادلة الوطنية. لكنه يتمسّك بموقف إدارته. ورداً على ما كانت قد سمعته من بري وحزب الله والعماد ميشال عون من أن باريس تدافع عن الغالبية النيابية وتتبنّى وجهة نظرها، يقول الدبلوماسي ذاته إن بلاده قالت مراراً، وخصوصاً إبان الزيارات السبع لكوشنير لبيروت، بضرورة عودة كل الأفرقاء الرئيسيين إلى المشاركة في السلطة انطلاقاً من انتخاب رئيس جديد في أسرع وقت ممكن. ما تريده باريس، بالنسبة إليه، هو انتخاب رئيس لا يكون كلحود، يتصرّف كرئيس قسم من اللبنانيين.