دمشق بعد القمّة غيرها ما قبلها ولا تتوّقع حرباً إسرائيليّةفداء عيتانيضغوط جمّة تعرّضت لها دمشق، بعضها أتاها من بوّابة القمة العربية وبعضها الآخر من بوابة التهويل الإسرائيلي والأميركي بحرب، ومن بوارج رست في عرض البحر، وبعضها من العاصمة اللبنانية التي احتضنت الكثير مما تعدّه دمشق تآمراً عليها
يتشجّع أفرقاء لبنانيون من المشاهد التي يرونها في المملكة العربية السعودية. فالأخيرة استضافت، وباحتفالية رمزية، نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام، كما استضافت عم الرئيس السوري اللدود رفعت الأسد، في إحدى أقسى الرسائل التي وجهتها المملكة إلى النظام السوري. هذه الرسائل لم تكتف الدوائر اللبنانية باستمداد الشجاعة منها، بل واصلت ما بدأته المملكة في السر والعلن، وحاولت القوى اللبنانية في الموالاة رسم دور أكبر من حجمها، غير عابئة بفشل سبق أن منيت به في حرب تموز 2006، بل على العكس، فهذه المرة رسمت قوى الموالاة دوراً توهّمت لأشهر عدة أنه بقي طي الكتمان، وأن لا أحد هنا أو هناك يعلم بشأنه.
لم تتوافر معطيات كثيرة في بيروت عمّا حصل في دمشق. دمشق التي تخضع اليوم لحالة من الابتزاز على أيدي أشقائها العرب يهدد بإفشال القمة المزمع عقدها هناك، تحت شعار علني هو عرقلة سوريا للانتخابات الرئاسية في بيروت، وعلى خلفية أكثر عمقاً هي الاستيقاظ المرعوب للأنظمة العربية وللولايات المتحدة على الفشل في رسم سياق مختلف للمنطقة، وعلى بداية تفلّت المارد الإيراني وحلفائه من القمقم.
ما حصل في دمشق منذ أربعة أشهر، وما يستمر البعض في بيروت بتغذيته، كان محاولة لإثارة المشكلات الأمنية والاجتماعية والسياسية، كما يؤكد أحد اللبنانيين الدائمي التجول بين عواصم المنطقة، حيث حظيت بضع مجموعات صغيرة بدعم وتحفيز من قوى إقليمية لإثارة مشكلات داخلية، كان من ينفّذها يعتقد بأنه سيصل إلى الانقلاب على الحكم السوري، بينما من كان يخطط لها ويشجعها يعتقد بأنه سينهك نظام البعث في صراعات داخلية تؤدي إلى تساقطه تباعاً.
إلا أن النظام السوري، تمكّن من قمع هذه التحركات، وكالعادة لم يرشح شيء مما وقع إلى الإعلام، وكانت العين السورية تشاهد ما يحصل في قصور أمراء خليجيين، وما يجري في بيروت، حيث راحت بعض المراجع اللبنانية توزع الأعطيات المالية على كل من يزورها بصفته يمتلك قدرة على تحريك معارضة في سوريا، وكما هو معلوم في بيروت، فإن هذه الأموال لا تصرف من سخاء محلّي، بل تصل خصيصاً لأهداف سياسية من دول خليجية. ولم تحصل المعارضة السورية المعروفة والجدية على أي قدر منها، فالمطلوب هذه المرة شكل آخر من العمل في الداخل السوري، شكل سريع وخاطف ومؤذ.
يعلم النظام السوري بما يجري حوله، وهو يخضع لابتزاز يزداد يوماً بعد يوم، وطبول الحرب تقرع في تل أبيب، ويتعرض لضربة كبيرة في عملية اغتيال عماد مغنية على أرضه، وتبدأ دائرة واسعة من الشائعات تدور حوله، تصل من بيروت، ومن قصور طالما كان هذا النظام يعدّها من حلفائه، لكنها استدارت بالكامل نحو المملكة السعودية والولايات المتحدة، وصارت، عكس كل الاتفاقات الموقعة مع بيروت، «ممراً لكل أشكال» التآمر والشائعات ضد نظام دمشق.
ويستكين النظام السوري تحت ضغط التهديد بإفشال القمة العربية، يحاول تجميع الدول العربية، ولكنه في مقلب آخر يحصي الثواني والدقائق التي تفصله عن نهاية أيام انعقاد قمة الرؤساء العرب في التاسع والعشرين والثلاثين من الشهر الحالي، وفي جعبته الكثير ليقوله وليقوم به تجاه واشنطن وبعض الأشقاء العرب.
وفي بيروت، يعتقد الكثيرون ممن لهم علاقات مباشرة بالنظام السوري وبأعلى الهرم فيه بأن هذا النظام تخلّى، ومنذ أعوام، عن نهج التسويات، وهو يبحث في الصمود، وهؤلاء يقولون إنهم كانوا يعتقدون بأن حافظ الأسد هو أفضل من وقف من القادة العرب إلى جانب مقاومة لبنان، إلا أن ابنه بشار تخطاه بأشواط. ويذكّرونك بأن بشار هو غير والده، مما يعيد إلى الذاكرة المحادثة الشهيرة التي يقول فيها رفيق الحريري قبل أشهر من مقتله لبشار الأسد «لقد خدمت سوريا على مدى 15 عاماً»، فيجيبه الرئيس السوري «أنا معني بالأعوام الخمسة الأخيرة فقط».
يحصي النظام السوري الأيام التي تفصله عن القمة، ويقول مسؤولون سوريون لزوارهم «دمشق بعد القمة لن تكون دمشق قبلها». وهم يعدّون ويهيّئون العمل، على مستوى فلسطين، العراق، لبنان، وحتى أبعد من ذلك، خطط لجدول أعمال لم يعد يتسع وقت الإدارة الأميركية الحالية لاعتراضه أو تعطيله، دون أن يغفل عن دمشق أن طموحاتها في قمم عربية مصغّرة تجمعها بالسعودية ومصر لم تكن أكثر من سراب.
لا ترى دمشق إمكاناً لحل مشكلة الانتخابات الرئاسية في لبنان حالياً، وهي تؤكد لكل من يزورها أن المصالح الأميركية تقتضي الحفاظ على الفراغ الرئاسي. فكل احتمال حالياً لتعبئة هذا الفراغ، بحسب زوار دمشق، سيصبّ ضد مصالح الموالاة في لبنان، وواشنطن تعتقد بأن وضع الموالاة من الهشاشة بحيث إن أي خطوة إلى الأمام ستضر بها وتؤدي إلى فقدانها لما يمكن أن تستخدمه في الانتخابات الرئاسية الأميركية من إنجازات تفيد الجمهوريين، كما أن دمشق تؤكد لمن يزورها أن عدم إجراء الانتخابات الرئاسية قبل دخول واشنطن في حمى انتخاباتها في حزيران يعني تأجيل الأزمة الرئاسية إلى ما شاء الله. وهو ما ينطبق على الانتخابات النيابية في لبنان، التي ستكسبها المعارضة، بغض النظر عن قانون الانتخاب الذي ستجري على أساسه، وهو ما يسوء الأميركيين أكثر من الانتخابات الرئاسية.
ويُسرّ زوار دمشق بأن لا تسوية بين الشام وواشنطن في المدى المنظور، وأن سوريا لا تنظر إلى حصول أمر مشابه، وعلى الأقل ليس مع الإدارة الأميركية الحالية، وهي قد ترى في الأفق إمكاناً لهدنة، تنعكس إيجاباً على مجمل العلاقات في المنطقة، ولكن ليس إلى حد حل المشكلات العالقة، بل مجرد تأجيل لانفجارات باتت بحكم الشيكات مستحقة الرصيد، وأن الهدنة قد تكون غير مشروطة من الجانبين، ولكنها مؤقتة قبل الانتخابات الأميركية وتنتهي صلاحيتها بعيد الانتخابات هذه.
ومن الزاوية نفسها، تبدأ قراءة الحرب مع إسرائيل، وإن كانت دمشق ترى أن في لبنان من ينتظر حرباً من إسرائيل لكسر الحالة التي أوجدتها حرب تموز 2006، ولكن دمشق ترى أن حرباً مع إسرائيل قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية هي أمل ضعيف لمن ينتظرها.
في حرب تموز كانت دمشق تنتظر أحد 3 أسباب لتدخل الحرب مباشرة، بحسب ما ينقل أحد الناشطين على خط عواصم المنطقة. كانت سوريا تعدّ جيشها بانتظار إما توسّع الحرب، وإما دخول إسرائيل البقاع اللبناني عبر المحور الشرقي، وإما طلب مباشر من حزب الله لمساعدته في المعركة. إلّا أن شيئاً من هذه العوامل لم يتوافر، مما سمح لدمشق بالبقاء بعيداً عن رحى المعارك. ولكن اليوم، سوريا تعلّمت الكثير من حرب تموز، وباتت صناعة الصواريخ السورية تجري وفق برنامج نموذجي، وأصبح جزء من ترسانة حزب الله مكوّناً من هذه الصواريخ، وخاصة الصواريخ الخفيفة وقصيرة المدى. وتعلم سوريا من ناحية بالثمن الباهظ الذي سيجبرها الإسرائيلي على دفعه، وحجم الدمار الذي يمكن أن يسببه دخولها في أية حرب، إلا أنها في المقابل تعلم أن بإمكانها أن تكلّف الإسرائيلي الكثير ثمناً لحرب، ويكفيها أن تحقق توازناً في المعارك، وأن تصمد كما صمد حزب الله في الحرب الأخيرة، وتعلن انتصاراً يتلخّص بمنع العدو من تحقيق أهدافه، حتى تتولى ودون منازع مكانة بين العرب لم يحصل عليها حسن نصر الله.
إلا أن القراءة السورية للوقائع تميل إلى القول إنه لا حرب في الأفق. فعلى المستوى الأول، الوقت ينفد أمام الإدارة الأميركية الحالية لشن حرب جديدة في المنطقة، ولا أحد من القادة الإسرائيليين يرغب في اتخاذ قرار بشن معارك نتائجها غير مضمونة، ومعنويات الجيش الإسرائيلي لم تتطور كثيراً، رغم الدعاية اليومية والحديث المسهب عن سد ثغر حرب تموز، وتقرير لجنة فينوغراد والمناورات الكبيرة والضخمة وغير المسبوقة التي يجريها الجيش. إن معنويات العناصر، وخاصة الضباط وضباط الأركان، ليست في مكان يسمح لهم بالدخول في حرب جديدة. وهو ما يتيح لسوريا الاسترخاء قليلاً، دون إغفال ما يمكن أن يقع في القليل المقبل من الأيام والأسابيع، وإن كانت دمشق تشيع أمام زوارها أن أعمالها الحربية ستشهد تطوراً في أية معارك مقبلة، وستظهر نتائج حرب تموز، ليس فقط لدى حزب الله وإسرائيل، بل أيضاً لدى الجيش السوري الذي أنجز تدريب لواءين على أسلوب عمل المقاومة اللبنانية.
في كل الأحوال، فإن بداية نيسان ستشهد تحولاً في التعامل السوري مع عدد من الملفات التي كانت دمشق إلى اليوم تؤجل بتّها أو تفعيلها، في انتظار أن تحل الخلافات العربية ـ العربية بالتي هي أحسن، إلا أن مسار الأمور لا يبشّر بالكثير، مما يضع سوريا أمام الاعتماد على النفس وعلى نفر قليل من الحلفاء.