إبراهيم الأمينتعطّلت كلّ المبادرات العربية المتوقّعة قبل القمّة المقرّرة نهاية هذا الشهر في دمشق. ويبدو أن الأمور تسير باتجاه المزيد من التعقيد في انتظار الموقف السعودي النهائي من مسألة المشاركة في القمة، الذي ستُحدَّد في ضوئه مواقف أطراف عدة، بينها حكومة فريق السلطة التي تعتقد ـ وفق نظرية وليد جنبلاط ـ بأنّ من غير اللائق أن تذهب الحكومة إلى القمة فيما يقاطعها الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز والرئيس المصري حسني مبارك كرمى لعيني الرئيس فؤاد السنيورة. وبالتالي، فإن النقص في اللياقة لدى قوى الأكثرية يمنعها من القيام بخطوة من هذا النوع. وهي سوف تتذرع بأن سوريا تصرفت بقليل من اللياقة عندما لم ترسل موفداً إلى السرايا، علماً بأن الجانب الإجرائي من الموضوع لن يحتاج إلى أكثر من اعتراض الوزير مروان حمادة في الجلسة حتى يتم التصديق على قرار المقاطعة.
ولئن كان الأطراف في لبنان لا يتوقعون أي نجاحات استثنائية من كل الأنشطة التي تجري حالياً في لبنان ومحيطه، فإن المشكلة موجودة لدى الجمهور الذي لم يعد يعرف كيف يتصرّف في ظل اشتداد الحملة السياسية بين طرفي النزاع، وخصوصاً بعد «الوثيقة الانفصالية» لفريق 14 آذار، التي تعيد إلى الأذهان صورة القوى الاستئصالية التي عمّمها الأميركيون على دول المنطقة منذ تنامي نفوذ فريق المحافظين الجدد، الذين يريدون أن يفرضوا على العالم السير في طريق واحد من دون اعتراض، وفق لعبة تصنيف هي الأخطر لناحية إطلاق الصفات على من يخالف الرأي، وابتداع منظومة تفكير وتشخيص تجعل أي مختلف مع وجهة نظر هذا الفريق بمثابة مرذول وجب عزله ومحاربته ومحاصرته حتى يقبل الاستسلام، وهو المنطق الذي يحتكر أصحابه المعرفة بالحقيقة المطلقة، وبالطريق إلى الأمان.
وإذ برزت مواقف معترضة من جانب شخصيات سياسية في فريق 14 آذار، فإن اعتراضها ظل محصوراً في الإطار الشكلي، كما هي حالة التكتل الطرابلسي الذي سجّل تحفّظاً من باب عدم إشراكه في أصل الفكرة، إذ دُعي إلى عملية الإخراج وحدها، علماً بأنه لم يحصل سابقاً، أو على الأقل خلال الأشهر العشرة الأخيرة، أن قبِل الثلاثي جنبلاط وسمير جعجع وسعد الحريري بإشراك الآخرين في صياغة أهم المواقف. كما أن المنطق التقني الذي حكم إنتاج ما عرف بوثيقة 14 آذار هو الذي يتطلّب إيجاد عمل لمجموعة كبيرة من العاطلين عن العمل من كوادر الفريق وقادته الذين يعانون ضيقاً بسبب غيابهم عن حلقة النقاش الصغيرة من جهة، وبسبب تراجع نفوذهم على المستوى الشعبي، من جهة أخرى.
لكن النقاش الفعلي الذي أطلقته «الوثيقة الانفصالية» هو المتّصل بمنح الصراع السياسي القائم بعداً ثقافياً وحضارياً من النوع الذي لا يشبه ما هو قائم فعلياً، لأنّ نقاط الخلل الفاضحة يمكن ملاحظتها في مسائل عدّة.
يحاول فريق السلطة إبعاد نفسه عن لعبة المحاور الخارجية، وهو الذي يستند إلى دعم دولي يمثّل الرافعة الأساسية له، إلى جانب ما يملكه من حيثية داخلية. وهو ينسب إلى الطرف الآخر الاستسلام الكلي للمحور الآخر، بعد شيطنة هذا المحور، وبالتالي شيطنة الدائرين في فلكه. ثم ينطلق فريق السلطة في البحث عن مطالب لا تشبه البتّة المراجع السياسية والمالية وحتى الفكرية لهذا الفريق. فكيف يفسّر جيل من الكتّاب اليساريّين السابقين مثلاً، وهم العائدون بعد طول غياب إلى الحياة الحزبية بانتمائهم المباشر إلى فريق 14 آذار، بين ما يريدونه للآخر من انطلاقة وحرية وبحث عن الأجمل، فيما هم واقعون تحت الضغوط المهنية والسياسية والمالية للسعودية، التي لا يتوقع أحد أن يشهد فيها سجالاً بشأن أزمة المرور قبل حصول تغيير جذري على مستوى النظام؟ ثم كيف يوفّق سمير فرنجية وإلياس عطا الله بين النزعة الانفصالية للوثيقة، والمنهج العلماني العام الذي يدّعيان الانتماء إليه؟ أم كيف يمنح جنبلاط نفسه حق المراجعة النقدية لسلوك قوى تمثّل الحيوية السياسية والاقتصادية في لبنان والمنطقة الآن، بينما هو ينتمي إلى أثر بعد عين، إذ كانت لسياساته وتحالفاته الآثار المدمّرة على البنية الثقافية والاجتماعية للطائفة التي يمثّل، فصار لزاماً على كل من يسعى إلى تطوير قدراته الفردية تعليماً وثقافة وحرية وإنتاجاً أن يتحرر من الزعامة البالية التي تقف على رأس حزب لم يعد له صلة بكل مرحلة التأسيس؟
كذلك يبدو أن الذين صاغوا الوثيقة كأنهم يجلسون في مقاهي بلاد بعيدة، يعيدون مناقشة الأمور وفق منظومة مفاهيم لا تتصل بواقع الحياة السياسية اليومية التي يعيشون هم في ظلها، فقرروا من طرف واحد حسم الصراع في لبنان، مدّعين أنّ وجهة نظرهم قد ربحت، أو هم عادوا لنسخ أدبيات الأحزاب الشيوعية العربية التي كانت تنتهي على الدوام بعبارة «ولقد أثبتت الأحداث صحة تحليلاتنا»، فيما تكون المسيرة آخذة في التدهور. وهم الذين خاضوا معاركهم الانتخابية والسلطوية على قاعدة شراء الذمم (إلا إذا أقنعونا بأنهم يصرفون من اللحم الحيّ ويبيعون منازلهم في الوطن وخارجه وسياراتهم وثيابهم ومدّخراتهم لأجل القضية)، دون أن يرف لمن يصنّفون أنفسهم اليوم بـ«جيش مثقّفي» السلطة جفن، وهم يرمون خلف ظهورهم كل ما كتبوه عن الدولة الهجينة التي أُنتجت بعد توقف الحرب الأهلية، وعن العقل الطوائفي والريعي الذي يتحكّم باقتصاد البلاد ومؤسّساتها، فيما يتّهم هؤلاء، من خلال وريقات ما سمّوها «الوثيقة»، الفريق الآخر بأنه فريق انتحاري لا يريد لنفسه ولأهله سوى الهلاك.
غير أن الأكثر فظاعة هو اعتبار هؤلاء أنهم يخطفون اللحظة التاريخية التي تتيح لهم الإفراج عن مكنونات صدورهم المحبوسة منذ نحو ستين عاماً، أي منذ تاريخ قيام إسرائيل، للقول إن خيار المقاومة لا يمثّل تطلعاً استقلالياً داخلياً، لا عند اللبنانيين المنتمين إلى تيار المقاومة ولا عند أحد خارج لبنان، ويرون هذا الخيار بمثابة ارتزاق عند أنظمة لا تريد إلا تحقيق مصالحها. وهم في هذه الحالة، يذهبون بعيداً في لعبة الانفصال التي يعتقدون بأن هناك إمكاناً لتحقيقها في بلد ضيّق إلى هذا الحد، يعيش وسط حقول جاذبة، وفي ظل صراعات هي الأعنف في تاريخ المنطقة والعالم. ولأنهم يرون أنفسهم مالكي مفاتيح الحقيقة، يجدون أن إعلان الانتماء الكامل إلى المشروع الأميركي (وتالياً الإسرائيلي) لم يعد أمراً يسبّب الإحراج أو الخجل!