الوطن المدوّل منذ عهد بعيد والأفرقاء الذين يهدّدون بتحويله ساحةعفيف دياب
ـ مشهد أول: اللبننة باتت مستحيلة، وهي منذ نال لبنان استقلاله لا مكان لها في حل الخلافات وتقريب وجهات النظر والأفكار نحو بناء وطن حقيقي.
ـ مشهد ثان: يهدد قطب في الموالاة بأن فريقه قد يلجأ إلى تدويل الأزمة اللبنانية وطلب عقد مؤتمر دولي يضع حداً لتدخلات نظام الوصاية السوري ـ الإيراني وعرقلة انتخاب رئيس للجمهورية؟
ـ مشهد ثالث: يهدد قطب في المعارضة بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا أقدمت قوى الموالاة على تدويل الخلاف؟
ـ مشهد رابع: وصايات عربية وإقليمية وأجنبية لا تخفي دورها في تصفية حساباتها وخلافاتها بأدوات محلية.
يقرأ مختص في القانون الدولي هذه المشاهد اللبنانية. يتحدث بأسى عن دور جميع الأفرقاء اللبنانيين في «قتل سلطة القرار الوطني» نتيجة ارتباطاتهم بالخارج القريب والبعيد التي لم تعد خافية، ويقول : «للأسف، الجميع في لبنان عمل ويعمل على تسليم القرار الوطني إلى سفراء الدول ومبعوثيها وموفديها (...) والتدويل حقيقة قائمة منذ زمن طويل، وبرزت بقوة في الأمس القريب ولا يمكن تجاهلها».
ويتابع الخبير في القانون الدولي أن «لبنان مدوّل منذ صدور قرار الأمم المتحدة الرقم 1559 وصولاً إلى القرار 1757، مروراً بالقرار الذي جاء بعد حرب تموز، والذي أتى بقوات الطوارئ الدولية المعززة إلى لبنان، الرقم1701 وما بينهما من قرارات وتوصيات، وهو طوال تاريخه السياسي لم يكن يوماً خارج نطاق التدويل أو التدخلات الدولية منذ عام 1861 حتى يومنا الحاضر. ولذلك أضحك عندما أسمع رجالاً في الموالاة أو المعارضة يهددون بالتدويل أو يحذرون منه، وللأسف لا أحد منهم ينتبه إلى أن لبنان مدوّل ولا داعي للاستخفاف بعقول الناس»!
ويوضح أن لبنان «نشأ أصلاً بقرار دولي من عصبة الأمم التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الأولى (والتي تحولت لاحقاً إلى الأمم المتحدة كما هي معروفة اليوم)، وقد أوكلت إلى فرنسا أن تكون دولة منتدبة تدير شؤونه. ومنذ ذلك الحين ونحن من انتداب إلى آخر ومن وصاية إلى أخرى، وللأسف البعض في لبنان يرى أنه كلما استقلّ البلد اهتز، وكلما خضع لوصاية خارجية اعتز».
في مقابل هذا، كيف تقرأ الموالاة والمعارضة فكرة التدويل؟ وهل أزمة لبنان ما زالت خارج نطاق التدويل، أم أنه متجه فعلاً نحو تدويل أزمته وصولاً إلى الوصاية، بعدما اصطدم التعريب بعقبات كثيرة ؟
يؤكد المسؤول في التيار الوطني الحر سيمون أبي رميا أن للتدويل خطوطاً حمراء نتيجة خصوصية لبنان، حيث تأخذ الدول الكبرى هذه الخصوصية بعين الاعتبار، موضحاً أن تعاطي الدول بملف لبنان شيء ووضعه تحت الوصاية الدولية شيء آخر. و«أعتقد بأن الأزمة اللبنانية غير مدوّلة، بل هناك اهتمام دولي بلبنان حتى إشعار آخر، فلا يكاد يمر أسبوع إلا نسمع عن بيان رئاسي من مجلس الأمن بشأن لبنان أو عن لقاءات بين دول تتحدث عن أزمته، ومن هنا علينا أن نميّز بين الاهتمام الدولي والوصاية الدولية».
ويتهم أبي رميا الفريق الأكثري بأن لديه «الرغبة في وضع لبنان تحت الوصاية الدولية لتحسين وضعه الداخلي، ولا أعتقد بأن هذا الأمر سيكتب له النجاح».
اهتمام دولي لا تدويل، حسب وجهة نظر أبي رميا، يراها أحد نواب تيار المستقبل «صائبة وفي مكانها». فهو يؤكد أن تياره وتالياً فريق 14 آذار يرفض «فكرة التدويل، إذ لا مصلحة لنا في ذلك، ونحن نحبّذ أن تكون «اللبننة» في كل شيء لحل خلافاتنا وأزماتنا».
ويتابع النائب من تيار المستقبل قائلاً: «لبنان مدوّل منذ صدور قرار مجلس الأمن 1559 في عام 2004، ونحن لجأنا إلى مجلس الأمن وطلبنا لجنة تحقيق دولية في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومحكمة دولية بعد أن أمعن أفرقاء هنا في إفشال الحل الوطني لمطالب كهذه، ويجب أن لا ننسى أن عدوان تموز هو الذي أدخل لبنان في التدويل، وأدى إلى انتشار آلاف الجنود الدوليين في البر والبحر».
ويضيف النائب: «نحن قبلنا بالحل العربي للأزمة، وقبولنا به يتأتّى من رفضنا للتدويل الذي يسعى إليه الآخرون. فرهاناتهم الخاطئة هي التي أدت إلى تدويل بعض القضايا أو الملفات المختلف عليها، ومن هنا نحن نجد أن هناك اهتماماً دولياً بلبنان، لا تدويلاً أو وصاية دولية».
أما تعريب الأزمات اللبنانية، فهو أكثر من أن يحصى، ولكن تبقى الأبرز في 1975ــــ1976 أو ما عرف بـ«حرب السنتين» التي أنتجت قوات الردع العربية. وبعد 1984، تراجع الاهتمام الدولي بلبنان، وتولّت سوريا إدارة الملف الأمني والسياسي حتى 1989، إثر حرب التحرير التي أطلقها الجنرال ميشال عون ضد سوريا فـ«عرّبت» الأزمة مع دعم دولي أنتج اتفاق الطائف، فاحتلت لاحقاً «السورنة» مكان «التعريب» الذي ترك الساحة اللبنانية إلى أن عاد التدويل ليخيّم على لبنان بعد القرار 1559 وما تبعه من قرارات أخرى.


تدويل أزمات
شهد لبنان محطات «تدويلية» عدّة في تاريخه. ففي مرحلة ما قبل نشوء الدولة، جرى تحرك دولي إثر حوادث 1860 الدامية. وفي مرحلة إنشاء الدولة (1920) وُضع تحت الانتداب الفرنسي. وفي أزمة 1958 سيطر التدخل الإقليمي (مصر وسوريا) والدولي (أميركا وتدخّلها العسكري)، وأنتج توازناً أوصل فؤاد شهاب إلى الرئاسة الأولى. وإثر اجتياح 1978 الإسرائيلي لجنوب الليطاني وصدور القرارالدولي 425، وفي عام 1982 أدى الاجتياح الإسرائيلي إلى تدويل الأزمة مع تدخّل عسكري أميركي. أما إنهاء الحرب الأهلية فكان نتيجة تدخّل عربي ودولي فرض شروطه على القوى المتصارعة. وبعد عدوان تموز 2006، انتشر أكثر من 12 ألف جندي أممي في جنوبي الليطاني تنفيذاً للقرار 1701.
شاعت فكرة التدويل في القانون الدولي منذ القرن التاسع عشر، وتحديداً بعد مؤتمر فيينا عام 1815، حين استخدمته الدول الكبرى وسيلة للحيلولة دون تفجر النزاعات على الأقاليم التي كانت تمثّل أهمية استراتيجية أو حيوية لها.