رنا حايك«مين اللي بيغني؟» يسأل حازم السائق الشاب الذي يمرّ بمحاذاته على إحدى الطُّرُق السريعة التي تقطع أواصر الصحراء في دبي. يجيبه السائق: «هول فرقة تلال القدس من عرب إسرائيل». تنتفض ملاك كالممسوسة: «قصدك عرب فلسطين». يضحك المراهق الشاب وتضيء إشارة المرور فنمضي.
كان حازم وملاك قد عادا للتوّ من ذكرى تأبين حكيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، جورج حبش، التي أقامها المركز الثقافي العربي. يشكوان قلة الحضور، ومن ذلك الصحافي الذي اعتلى المنبر ليعرّف بأحد أهم «قوّاد» الجبهة الشعبية، ومن رجلين يلبسان الزي الخليجي اتخذا ركناً يراقبان منه نسب ارتفاع الأدرينالين في أدمغة الحضور. أستغلّ العذر التخفيفي الذي أتمتع به وأنا زائرة لم ينقضِ على وجودها في دبي سوى بضعة أيام لأسألحازم: «كيف يصالح العربي اليساري المقيم في دبي بين مواقفه القيمية والتزامه السياسي وبين حياته اليومية ومصدر عيشه؟».
يصلني الكثير من الحنين والنوستالجيا في نبرته، هو السوري الفلسطيني الذي كان عضواً في الجبهة الشعبية. عمل في لبنان لفترة، واعتُقل عدة مرات في سوريا، قبل أن يهاجر إلى دبي منذ سبع سنوات ليعمل مهندساً في أهم شركة عقارية في الخليج. لكن هذا الحنين يقتصر على الشوق إلى التجمع والتواصل مع الرفاق واستعادة الماضي وحواديت النشاط السياسي.
أحاول أن أصوّب السؤال، ذلك أني لم أكن أسأل عن افتقاد التواصل الإنساني، بل عن الالتزام السياسي. مجدداً، يصلني صوته من مكان آخر، فأدرك أننا نتحدث على مستويين مختلفين. البعد الذي أقصده لم يعد مطروحاً، أكتشف أن الرفاق هنا باتوا يفتقدون مستويات أكثر بديهية مثل التواصل الإنساني. لكن حازم يعود، فيطمئنني كأنه يطمئن نفسه أيضاً: «من كان معدنه أصلياً لا يصدأ من جفاف الصحراء. العمل السياسي ممنوع هنا، فلا نمارسه، لكننا جميعاً لم نتغير».
طبعاً العمل السياسي ممنوع، فهذه جنة حيادية تغرف من حياديتها راحة البال التي تقدمها للمستثمر وللسائح. حيّز جغرافي لا مكان فيه إلا للعمل والاستهلاك ولأكبر قاعدة بحرية أميركية في العالم العربي لا تتعارض مع مفهوم الحيادية النيوليبرالي.
أقول لحازم: قد يكون النشاط الوحيد المتاح لكم هو تأمين صلة الوصل بين الجمعيات أو الأفراد المحتاجين في الأراضي المحتلة والمتبرعين هنا، فيوافق.
ملاك اللبنانية ـــــ الفلسطينية قصدت دبي منذ عدة أشهر. وفاؤها لتراثها في مجال النشاط الأهلي في لبنان، ولعلاقتها الوثيقة بعمّتها المناضلة ليلى خالد منعاها من التواصل مع هذه المدينة. ما زالت تحافظ على روحها. لا تبهرها الأبراج، ولا مراكز التسوق العملاقة، ولا الفرص الذهبية المتتالية. هي هنا لتدَّخر خلال سنة ما يلزمها من المال لإكمال دراستها، لا تغريها رمال شاطئ الجميرة، بل تزيد اشتياقها لـ«شط صور».
لا تبحث ملاك عن الاندماج، على عكس دينا التي أجابت حين سألتها عمّا إذا كانت سعيدة في حياتها هنا: «لأ. بس هلق قررت أنبسط». أما لماذا ليست سعيدة، فلأن «الرواتب لم تعد عالية كالسابق، والمعيشة أصبحت أغلى، والبلد بلا روح».
دينا هنا منذ خمس سنوات، ترسم وتكتب القصائد وتعمل في مجال الإعلام. كل سنة في آب تحزم أمتعتها، تقفل حقائبها، وتعزم على العودة إلى لبنان، لكنها تعود وتفرغها. تصبح العودة صعبة ما أن يدخل الإنسان في هذه المنظومة، ويمر الوقت سريعاً في هذه المدينة اللاهثة أبداً وراء كل جديد. تصبح الحياة آلية.
كلهم هنا يفتقدون الحمرا والضيعة. ورغم وجود ثلاثين نوعاً من الزيتون مصفوفة على أرفف السوبرماركت، ينتظرون تلك الحبات التي ترسلها «الحاجة» في كل موسم من كرم العائلة. لكنهم لا يعودون، فالنظام يبتلع مع السنوات أي وافد ويدخله في دوامة يغدو الخروج منها أصعب فأصعب مع مرور الوقت. لا يعودون، يتربصون فقط لعروض مغرية تقدمها شركات الطيران فيقتنصون الفرصة ويسافرون لقضاء بضعة أيام في لبنان من وقت لآخر. الادخار أصبح صعباً في الخليج. لكن الأمان متوافر. والخدمات ممتازة. والحاضر مضمون. المدينة غير دافئة رغم صحراويتها، لكنها في ما استنسخته من نسق غربي، تضمن، على السطح، مستوى أعلى من بداوة القبائل و«السكان الأصليين» الذين انسحبوا للسكن في الإمارات الست الباقية.
قيم المدينة بضوضائها التي لا تلتقط صغير الأصوات وأضوائها الباهرة التي تضيع فيها التفاصيل، لتخلق مساحات واسعة من الخصوصية والفردية.
أنت هنا في بلد عربي، لكنك غير مراقب ولا تحمل على أكتافك عبء تراثك الثقافي ونسقه الاجتماعي. يتجلى ذلك في جميع تفاصيل الحياة: بدءاً من لغة التواصل غير العربية، حتى التصنيفات المعلبة والأحكام الجاهزة التي قد تطارد تصرفاتك في لبنان كالطائفة التي تنتمي إليها وانتمائك السياسي وأسلوب حياتك المتحرّر.
في دبي، أنت جسد مكتف وطاقة منتجة مستثمرة، لكنك آلة، وروح دائمة الظمأ لنبتة برية نمت وحدها على طرف الرصيف ولبعض الفوضى في العمارة ولشارع أو زقاق معتم. لوجوه ولكنات ونكات مألوفة، لحبل غسيل يخدش حياء المارة ولصبحية الجارات في البناية ولبائع الجرائد المجهول على الناصية، الشاهد على سنوات الحرب الأهلية، ولمناظرات مثقفي مدينتك، وإن كانوا مدّعين. لأمسية شعر وإن كان رديئاً، ولمحادثة ماركسي شاب وإن كان كئيباً. في دبي، تفتقد روحك الروح، لكنك ترتاح من توترات السياسة والطائفة والمجتمع اللبناني.
سئمت سحر هذه التوترات، فوجدت في دبي ملاذاً. تعيش حياتها باستقلالية تامة ومن دون أية ضغوط اجتماعية. تتيح لها هذه المدينة توظيف طاقاتها وتشعرها بالرضا عن الذات. تشيد بالمركز الذي استطاعت دبي تبوّءه عالمياً في مجال الاقتصاد، ويشعرها احترام الأجانب وتهافتهم على العمل هنا بالفخر بهويتها العربية، رغم أنها تشكو من الفراغ الروحي المسيطر على هذه الصحراء ومن تركيبة وسلوكية اللبنانيين الوافدين الذين يفتخرون بـ«تحقيقهم أساطير النجاح المادي هنا» والذين شوّه هذا النجاح جوانب كثيرة من شخصياتهم.
تعدها هذه المدينة بآلاف الفرص والاحتمالات وتريحها من توترات الحياة اليومية في لبنان، كما تتيح لها استقلالية يمنعها محيطها الاجتماعي من ممارستها في لبنان.
«ألو.. الحمدلله عالسلامة».
«الله يسلمك».
«شو؟ كيف كان مشوارك علبنان؟».
تنطلق سحر بحيويتها المعهودة وتتدافع كلماتها وهي تجيبني: الوضع المتوتر، الحياة المشلولة. حفلة خالد الهبر في الأونيسكو. «اللبنانيون لديهم طاقة لا يعرفون كيف يصرفونها: يرقصون وراء من يرقص ويهتفون وراء من يهتف ويبدلون ألف حلة نفسية في اللحظة...». وبعد صمت قصير: «بس بتعرفي شو؟ رغم كل هيدا. ما كان بدي إرجع عدبي...».
اللعنة!! إنها تلك الحقيبة مجدداً. تحزمها سحر بعد أن يعييها البكاء على صوت فيروز في دعائه «يا ريتا بتخلص هالغربة تقلبي يرتاح»، ثم تعيد إفراغها بعد أن تتذكر أقساط القرض الذي لن تنتهي من تسديده قبل سنتين من الآن والذي كان ضرورياً لتستأجر المنزل الذي تقطن فيه.
هو...
هو ليس استثناءً... هو جميعهم
يقنع نفسه بأنه متصالح معها، لكنها سرعان ما تفضحه. قابلتُه لمدة ساعة فقط. بيننا أصدقاء مشتركون. لم أتكلم في تلك الجلسة. تحفظت على جميع آرائي عن دبي وعن الصحافة فيها رغم الأسئلة المتتالية التي انهالت عليّ من جميع الحاضرين. الجميع يريد أن يعرف رأيي، والجميع يفتقد في عيني ذلك البريق الذي يولده الانبهار في عينَيْ أي وافد جديد. هدوئي وعدم انبهاري بمعطيات هذه البلد كانا كافيين لاستفزازه ولتحريك مبرراته الدفاعية التي أمطرني بها. حاولت أن أنقل له رسالة أنني لا أحاكم البشر على خياراتهم ولا أدينهم، فالناس أحرار في ترتيب أولوياتهم، ولكل منهم ظروفه الخاصة، وأنا أتقبّل من يرى التحصيل المادي هدفاً في حياته ويجتهد بالعمل لإدراكه. لكن الرسالة لم تصله، أو أنه رفض الإقرار بأحادية الهدف الذي يرتئيه لحياته، كأنه لا يقبل بصيغة أقل من «جمع المجد من أطرافه»، فانصرف إلى محاكمة ذاتية كانت لي فرصة الاستماع إليها. هو يريد المال، لكنه مصرّ على إقناع ذاته بأن ما يمارسه هو صحافة. دفعه ذلك للاستغراق في حوار ذاتي يقنع خلاله نفسه بصوابية قراره في الانتقال من الصحافة إلى عمل العلاقات العامة لدى «أكبر شركة مالية في العالم العربي»، فهذا «نوع من أنواع الصحافة. لا أزال إعلامياً، أكتب كثيراً بحيادية وأتعلم الكثير. ظروف العمل ممتازة. أنا أثري سيرتي الذاتية، وهذا البلد، بصفته أهم مركز اقتصادي في المنطقة، يؤمن لي EXPOSURE انكشافاً أعلى».
بمنتهى الهدوء أسأله: «إنكشاف لشو؟ لوين بدك توصل؟ شو الهدف؟ وعحساب شو؟».
فيجيبني عن المنطقة التي تتبدل، وعن الدور الذي ستؤديه دبي في المرحلة المقبلة وعن أهمية أن يكون معروفاً في حينها لينال نصيبه من هذا الازدهار. أشرد قليلاً. أبتسم قليلاً. أتذكر بعض «إعلاميي» لبنان ومصر ومختلف البلدان العربية: صحافيون سجناء رأي، صحافيون ملاحقون، صحافيون لا يملكون سوى أقلام من ماركة بيك، صحافيون ملتزمون مواقف قيمية وسياسية وأخلاقية يدفعون ثمن التزامهم بها غالياً.
أتمنى له التوفيق وأغادر. أنسحب من المكان بهدوء، بهدوء أحزم الحقيبة. أحرص على إقفالها جيداً. أتأكد من عدم وجود أي ثقب تتسرب منه روحي ومهنيتي واتساقي مع ذاتي، فهذه الأمتعة هي كلّ ما أملك وأغلاه. تحاصرني المرايا الكثيرة في غرفتي بالفندق الفخم، أبتسم برضا لعشرات مني يحطن بي. أغمز لهن جميعاً بتواطؤ لذيذ وأهمس لكل منها: لقد ربحت الرهان... وأثبت أنك أكثر راديكالية مما كنت تظنين حين قررت أنك لن تكسبي العالم وتخسري روحك.


قاموس المدينة
مجموعة من المصطلحات المستقاة من عالم الأعمال تحكم حياة من يعيشون في دبي. وبما أن معظم هذه التعابير دخيلة، فإن ترجمتها قد لا تتوافر في اللغة العربية مثل مصطلح exposure الذي ترجمته إلى «انكشاف»، كما يرد في قاموس عالم الشركات والأموال. وكذلك مصطلح high profile الذي يسعى الجميع إليه ويتنافسون في ما بينهم لتحقيقه أو للقاء أشخاص حققوه بصرف النظر عن توظيف ذلك لتحقيق هدف معين. فـ«اغتراب العمل»، ذلك المصطلح الماركسي يكتسب معنى أشد هنا حيث الكل يلهث لتحقيق إنتاجية أعلى ونجاحاً أكثر في مضامين لا تعنيهم. قد يعني النجاح بلغتنا، ولكن مضمونه يختلف حتماً، فالعنصر المادي والشهرة هما من أهم مكوناتهإلا أن بعض أهم العبارات ليست غريبة عنا، لكنها تُستخدم هنا بوفرة أكثر وتتخلص من شحناتها الدلالية السلبية التي ترتبط بها في بلادنا: الترويج، شركات العلاقات العامة التي تقوم بدور الوساطة التسويقية بين الشركات والمؤسسات الصحافية، branding، labels.
وفي المقهى، لا تكاد تسمع حديثاً من المحيطين بك من الرواد يخلو من أرقام. والمفاجأة أن معظم هؤلاء هم من اللبنانيين. تعرفهم من لكنتهم، ومن طريقة إمساكهم للـ«أرجيلة» وطريقة جلوسهم. لن تسمع حديثاً في السياسة إلا ويتناولها بأسلوب سطحي مردداً ما تقوله نشرة الأخبار، لأنه لا أحد يريد التورّط بموقف. الكلّ منكب على اتباع سياسة الاعتدال كما يطرحها المفهوم الغربي.
في دبي، لن تسمع كلاماً عن عمّال البناء الذين يبنون الأبراج في درجة حرارة تصل أحياناً إلى 45 ونسبة رطوبة قد تبلغ 70%. يعمل هؤلاء ويعيشون في ظروف بغاية السوء ويتقاضون أجراً زهيداً عن العمل الشاق الذي يقومون به، لكنك لن تقرأ أو تشاهد تحقيقاً عن حالتهم.
أما أهم الجمل التي لن تراها في أي بلد آخر، فهي مثل: «ورشة بناء السوق العتيق». ففي دبي يبنون الأسواق العتيقة بينما يهدمون المباني التي يزيد عمرها عن الأعوام العشرين.