جان عزيز في الذاكرة الشعبية لمسيحيي لبنان روايات كثيرة عن حالة من الذعر دبّت في قواعدهم العفوية، في الساعات الأولى لحرب العبور في 6 تشرين الأول عام 1973. كانت النسوة العجائز، كما يُروى، يقُلن بشيء من الولولة الهامسة: «لقد انتصر العرب على إسرائيل! لقد قُضي على المسيحيين في لبنان!».
والذاكرة الشعبية تلك، ثمّة ما يقابلها في أدبيات الفكر السياسي المسيحي. وأبرز مثال على ذلك، وأكثره جدية وعمقاً، شارل مالك، في تشخيصه للقضية اللبنانية على أنها آخر نموذج للمسألة الشرقية الشهيرة. وهو ما يقترن لدى مالك بقراءة المسألة الشرقية هذه، على أنها مسألة صراع الأقليات من أجل البقاء في هذه المنطقة من العالم، أو في هذا «الجسر العظيم»، كما كان يسميه، بين العالمين القديمين. ويخلص شارل مالك في مكان من قراءته، إلى أن حقيقة أزمة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومن ضمنها «القضية اللبنانية»، هي صراع موسى ويسوع ومحمد. صراع له حلان نظريان لا ثالث لهما: إمّا أن ينتصر أحد الثلاثة على الآخرَين، وإمّا أن يتعايشوا مستقلين متوازنين متكافئين.
كان كلام شارل مالك قبل عقدين على «حضارات» هانتنغتون، ما جعل هذا المذهب من مقاربة الجماعات، في زمن القوميات والأمم المؤدلجة، يوسم بالانعزالية. علماً أن هانتنغتون نفسه كان قد بدأ إرهاصات «صدامه» في الستينات، لكنه لم يتحوّل دُرْجة، أو موضة، لكونه لم يناسب يومها مصالح «النظام الدولي» البائد.
المهم أن المسيحيين في لبنان لم يكونوا غرباء عن شيء من تعايش الكيانات الدينية في المنطقة. لا بل منطق المصارحة الكاملة، كشرط للمصالحة الكاملة، يقضي بالاعتراف بأنهم جرّبوا ذلك السبيل، ودفعوا ثمنه. وكي لا يقع الكلام في موقع جلد الذات أو «المياكولبا» المازوشية، اقترنت تجربتهم تلك بتجارب أقسى للجماعات الشريكة معهم في الوطن، مع فارق أن الآخرين قبضوا ثمن خروجهم عن الميثاق، لأسباب معقّدة، لا مجال لبحثها ههنا.
المهم أنه بعد بشير الجميل، وبعد «نجاح» وليد جنبلاط في حرب الجبل سنة 1983، وبعد أساطير التحالف الموضوعي بين دمشق وتل أبيب، تبدّل جذرياً «الوعي» المسيحي، فخرج نهائياً من حقبة «الوجود الإسرائيلي» داخل المعادلة اللبنانية وساحتها.
وبعد نحو عقدين من تلك الأحداث المكوّنة لوجدان الجماعة، كان حدث آخر لا يقل شأناً، قد تمثّل في ثنائية حرب تموز 2006، بعد أشهر قليلة على وثيقة التفاهم بين ميشال عون وحسن نصر الله. فبين 6 شباط و14 آب من ذلك العام، كان «عبور» آخر للوعي المسيحي في لبنان. فبعد خروجه من مرحلة «الوجود الإسرائيلي» منتصف الثمانينات، دخل مرحلة «العداء لإسرائيل في لبنان»، مطلع القرن الواحد والعشرين. وهو ما لم يحقّقه اتفاق الطائف إلّا على الورق، مطلع التسعينات، على عكس كل أدبيات حقبة الوصاية وأصواتها.
أمس طرح السيد حسن نصر الله على «وعي» وجدانات الجماعات اللبنانية، مسألة جديدة وتحدّياً جديداً: إزالة إسرائيل من الوجود. هل بات الوعي المسيحي اللبناني مؤهّلاً للإيجاب عن هذا السؤال، بمعزل عن نتائج استطلاع للرأي وبعيداً عن دلالة أرقامه؟
ثمّة موضوعة أخرى يجدر طرحها في هذا السياق، وهي تلك المرتبطة بأزمة «مفهوم الآخر» في هذه المنطقة، وأزمة ديموقراطية الجماعات والمواطنة و«الشخص الإنساني» بحقوقه الأصيلة جميعها، في كل العالم الإسلامي. والموضوعة هذه مطروحة من زاوية السؤال الافتراضي: كيف ستكون صورة المنطقة والفكر السياسي في الإسلام، بعد زوال إسرائيل؟ وهو سؤال مرتبط، كما يقول برنار لويس، بخارطة الإسلام المتفجّر على امتداد الكرة الأرضية، من جبهة مورو في الفيلبين إلى كوسوفو في قلب أوروبا. وإزاء هذا السؤال ثمّة نظريتان لإجابتين مفترضتين. الأولى متشائمة، وتؤكد أن سقوط الكيان اليهودي سيؤدي إلى تسعير الرفض الإسلامي للأقليات الأخرى الباقية. على طريقة «رؤوس الجسور الاستعمارية» ومقولات «حماية الثغور» ومنطق «دار السلام». وتبقى نظرية ثانية متفائلة، ترى أن وجود دولة إسرائيل، بما أنتجه من نظام عربي توتاليتاري قائم على ذريعة «المواجهة»، هو ما أطاح الديموقراطية وحقوق الإنسان والازدهار الفردي والمجتمعي في كل المنطقة. وبالتالي، فإن زوال هذا الكيان سيفتح المجال أمام التطور الحتمي نحو الديموقراطية الإنسانية، كمسيرة طبيعية للفكر البشري، بدأت مع البروتستانتية قبل قرنين، وانتقلت إلى الكاثوليكية قبل أربعة عقود فقط، قبل أن تبلغ الأرثوذكسية قبل عقد ونيّف، وها هي تقف عند باب الإسلام، الموصد أمامها، نظراً إلى عقدة «القضية المركزية» في فلسطين.
هكذا تبدو الموضوعة المطروحة جدلية رهانية خطيرة: زوال إسرائيل قبل «دمقرطة» الإسلام السياسي، هل هذا هو السبيل الصحيح أم العكس، من دون أن ينفي كل ذلك أحقيّة الصراع الفلسطيني في مطالبه العادلة والمشروعة.
جدلية رهانية، يخفّف من وقعها أن طارحها وريث لمسار كربلائي طويل إزاء مؤسسة الخلافة. وهو ما يفتح لهذا الطرح خلفيات في السياسة والجيو ـ إثنو ـ استراتيجيا، تبدو حتى اللحظة من ضرورات الصمت.