strong>قبل 5 سنوات توجه شبان لبنانيون إلى العراق. منهم من عاد ليروي شهادته ومنهم من خلّف حسرة في القلب خلّف الغزو الأميركي للعراق تداعيات سياسية على المنطقة. لكن برميل البارود الذي انفجر في العراق كانت له تداعياته المباشرة على الساحة اللبنانية تعدّت السياسي إلى الاجتماعي. عائلات لبنانية لا تعرف مصير أبنائها الذين رحلوا ذات يوم رغبة في الدفاع عن العراق
مفيد مصطفى
تعود الروزنامة بأوراقها خمس سنوات إلى الوراء، تاريخ بدء الغزو الأميركي للعراق. بلدة القرعون في البقاع الغربي كانت لها حصة الأسد من تداعياته المباشرة على أبنائها الذين التحقوا بركب المتطوعين الراغبين في الدفاع عن العراق، ولا يزال مصيرهم مجهولاً إلى اليوم.
أول الذين سلكوا درب الجهاد من بلدة القرعون كان فادي (30 سنة)، ذو اللحية الكثة الطويلة، الذي كان يرتدي سروالاً فضفاضاً يقف عند حدود الكاحلين، تغطيه عباءة تلامس الركبتين يشبه لباس الأفغانيين. خرج ذلك اليوم فجأة من غرفته المتواضعة في بيته الصغير، يحمل حقيبة صغيرة تحوي ثوبين ضروريين. كان والده نائماً بعد يوم شاق من التجوال في بيع الخضار. اقترب من أمه المريضة بالسرطان، قبّلها، قال لها: «ادعي لي»، فعلت ولم تسأله إلى أين فهي معتادة على ذهابه المفاجئ. بعد أيام قليلة، لحق به كل من عمر وعمار وعمرو.
لا يتعدى سن عمر، الذي كان يدرس الفيزياء في الجامعة اللبنانية، الـ22سنة. كان متديناً، كثير التساؤل عن الحلال والحرام. تغطي وجهه شعرات مجعدة طويلة متباعدة: «ابني مهذب خلوق، لم يؤذ أحداً في حياته، مواظب على صلاته»، يصفه والده الذي لم يفاجأ عندما علم بذهاب ابنه إلى العراق «ربيته على حب الجهاد والصلاة»، يقول بنبرة الواثق من عقيدته، إلا أنه لا يجد مبرراً لعدم ثقة ابنه به، وهو الذي اختفى فجأة من دون أن يخبره «كان على عمر أن يشاورني». يتراجع عزمه شيئاً فشيئاً «لو أخبرني لكنت أقنعته بأن يبقى». يتنهد ويتابع وكأن ابنه ماثلٌ أمامه «لكن لو أصر عليّ لما منعتهلا تختلف حالة والد عمار عن والد عمر كثيراً، الذي يعتقد أن ابنه «ذا الأخلاق والمؤمن» قد ذهب طلباً للشهادة، وعن معرفته بالموضوع يقول وعيناه تلمعان وكأن الدموع محبوسة في داخلهما «يبدو أن الأمر كان سرياً للغاية». ويضيف بجهد يائس «لو كنت أعلم لمنعته من الذهاب». وكل ما يذكره أبو عمّار عن رحيل ابنه أنه اختفى في يوم جمعة «عندما أتيت من الصلاة سألت عنه والدته فقالت إنه لم يأت بعد إلى البيت»، وأضافت: «ربما يكون ذهب للغداء عند أحد أصحابه».
يصمت للحظات ويضيف وكأن ذكرى ما استوقفته «عندما تأخر سألنا عنه فلم نجده، وعند الساعة السادسة كانت المفاجأة، تلقينا اتصالاً من مجهول أكد لنا أن ابننا بخير وهو في طريقه للجهاد في العراق، كان قد فات الأوان للبحث عنه».
كما تلقى أبو عمر وأبو عمار اتصالين من ولديهما في الفترة الأولى لرحيلهما. يقول أبو عمر «في الاتصال الأول نصحته بأن يرجع إلى لبنان، ووعدته بالسعي لتخفيف عقوبته لدى السلطة اللبنانية» ولكن رد عمر كان عدم التراجع عن قراره، وأنه سيبقى ليجاهد، عندما لمست هذا الإصرار لديه قلت له افعل ما تشاء ودير بالك على حالك».
أما أبو عمار فحاول أن يعرف من ابنه الجهة التي غادر معها، لكن سلته ظلت فارغة: «رفض ابني إخباري، مصراً على أنه ذهب مع المقاومة العراقية!». وعندما لمس الوالد إصرار ابنه على البقاء قال له بغصة «قاتل بشراسة وبيّضلي وجي».
تشرح أم عمر الوضع بكلمات بسيطة تترك أثرها في النفس: «الأم التي يتوفى ابنها تعرف أنه انتقل إلى دار الحق، والأم التي يهاجر ابنها تعرف إلى أين ذهب وماذا ذهب يفعل، أما أنا فلا أعرف شيئاً؟!».
حالة «أبو فادي» كانت الأصعب بين حالات الآباء الذين ذهب أولادهم إلى العراق، إذ إنه لم يشاهد ابنه يوم رحيله، كما أنه لم يتلق أي اتصال منه منذ رحل عن البيت. لا يخفي عتباً لأنه لم يخبره أنه ذاهب. يقول وهو يعض على شفتيه مقاوماً البكاء «لم أكن أريد أن أعلم إلى أين سيذهب، كنت فقط أود أن أودعه وأمتع عيني برؤيته».
لكن أبا فادي علم مصير ابنه عندما تلقى شقيقه اتصالاً هاتفياً مصدره العراق أخبره أن فادي «استشهد» في إحدى المعارك. «لم أعرف في تلك اللحظات ماذا أفعل». يتذكر وكأنه يسخر من نفسه «في اليوم التالي ذهبت لأبيع الخضار كعادتي، اشتريت مجمع حلوى وصرت أوزّع الحلوى عن روح الشهيد وأبكي».
أما والدا عمر وعمار فالأمل لا يزال يطرق بابيهما، «لا نعرف إن كانا في السجن أو جرحا أو قتلا». لكن سبل البحث عنهما غير متوافرة: «فكرت بالأمر ولكن أين سأبحث عنه؟ عند الأميركي؟». فيما يرفع والد عمّار عينيه إلى السماء: «أنا مؤمن بقضاء الله وقدره، وآمل فجر كلّ يوم أن يطل عليّ ابني».


... ومتطوّع لم ترضه تظاهرات بيروت فتحوّل «مقاتلاً»

أحمد محسن
رامي (اسم مستعار اختاره لنفسه) ذهب إلى العراق متطوعاً للدفاع عنه، ونجح في العودة إلى لبنان. قبل اتخاذه قرار السفر وجد نفسه في بيروت محاطاً بالتظاهرات المناهضة للحرب، لكنها لم تكن كافية بالنسبة إليه، كتب وصيته من دون أي تخطيط مسبق، وشدّ الرحال إلى بغداد.البداية كانت من السفارة العراقية، حيث كان شبّان لبنانيون كثر ينتظرون، كانوا متحمسين للالتحاق فوراً، لكن السفارة العراقية طلبت منهم الانتظار ليشكلوا قافلة، وفعلاً توجهوا إلى السفارة العراقية في دمشق، حيث كانت هناك مجموعة كبيرة من العرب القادمين من كل بلدان العالم. ختمت جوازات السفر على جانبي الحدود السورية ـــ العراقية، وأعطي كلّ متطوع ورقة من قبل الجانب العراقي، تعرف عنه أنه «مقاتل».
كانت القافلة التي أقلته إلى العراق تضم أربعة باصات، وتسير بسرعة جنونية. يصمت رامي لبرهة ويفرك عينيه جيداً، عندما تعود إلى ذاكرته مشاهد الحافلات المحترقة على الطريق بعدما قصفها الطيران الأميركيانشطر الباص الأول نصفين، وارتطمت القافلة به. يرتجف صوته قليلاً، ويؤكد أن رؤوساً تطايرت من الحافلة الأولى. هو كان في الباص الثالث، وكان بدّل مكانه مع أحد المتطوعين، الذي فقد يديه ورجليه بعد الحادثة. وحده الباص الأخير نجا وأخبر السلطات العراقية في بغداد، التي أرسلت المساعدات لنقل من تبقى وإسعاف من جرح، أما الجثث فقد تركت مكانها تحت رحمة العاصفة الرملية القاسية، التي يؤكد حدوثها في ذلك الحين.
رغم جراحهم تابع المتطوعون الطريق إلى بغداد. أخذوه إلى مستشفى وأبقوه بضعة أيام، قبل أن ينقل مع مجموعة من الشبّان إلى ثكنة عسكرية تابعة للجيش العراقي، تحت إشراف «فدائيي صدّام». هناك أخبروه أنهم ذاهبون إلى كركوك رغم أنه كان يتوقع القتال في بغداد التي غابت عنها المظاهر المسلّحة ولم يرَ فيها سوى الحرائق.
في ملعب كرة قدم في كركوك، منح اسماً عسكرياً هو «أبو طافش»، وتسلم المقاتلون أسلحةً رشاشة وقاذفات الصواريخ (B7) مع كمية من الذخائر، ثم نقلوا إلى منطقة جبلية تحوي مجموعة من المباني المهجورة، حيث كانوا يفترضون أنهم سيقاتلون الأميركيين الذين سيدخلون عبر منطقة كردستان العراق. خاض رامي ورفاقه معارك كرٍّ وفر مع الأكراد، وكانت المعلومات التي تصل إلى مسامعهم تؤكد صمود المقاومة في بغداد.
في اليوم الذي تلى سقوط بغداد، وقعت الخيبة الكبيرة. بدأ القادة العراقيون بالفرار «وطلبوا منا أن ننجو بأنفسنا». قسّم المتطوعون أنفسهم إلى مجموعات وسط جوّ من الخيبة والرعب. «شرعنا بالبحث عن خيوط المقاومة من دون أي نتيجة، فلم نجد مفراً من الاستنجاد بالعشائر، هرباً من حواجز الأكراد» الذين كانوا يخرجون علينا في سيارات مدنية ويطلقون النار عشوائياً،
«ألقينا أسلحتنا في النهر، بعد سير يومين متتاليين والنوم في كوخ مهجور، حيث أكلنا ما تبقى فيه من طعام متعفن». لعبت الصدفة دورها حين تعّرف إليه أحد اللبنانيين الذي كان قد رآه في السفارة العراقية، فأوصله إلى إحدى العشائر التي أوصله أبناؤها إلى الموصل ومنها إلى الحدود السورية، «ولولا أن السائق كان كردياً لقتلنا على الفور عند الحواجز الأميركية ـ الكردية المشتركة».
إلى اليوم، يكاد رامي يختنق عندما يتذكر جثث العراقيين المنتشرة على جوانب الطرقات، والمحقق الأميركي الذي سألهم إن كانوا «إرهابيين». كي لا يعتقله الأميركيون، مزق رامي ورقة «المقاتل»، الذكرى المادية الوحيدة له من العراق.
داخل الحدود السورية، جلس مع الجنود السوريين ليستريح، فيما كانوا يدخنون النارجيلة ويساعدون المتطوعين الذي فقدوا جوازات سفرهم على العبور من خلف الأسلاك الحديدية. من سوريا إلى بيروت كانت الطريق سهلة جداً، رغم كل الألم الذي اعتصر قلبه، حين سقطت بغداد في قبضة الاحتلال.