نقولا ناصيفبعدما انتقلت القمّة العربيّة المقرّرة في دمشق نهاية هذا الأسبوع، من وسيلة ضغط على سوريا إلى واقع حتمي، عبّر عنه إعلان الدول العربية تباعاً مشاركتها فيها ـ وإن بتمثيل متفاوت الأهمية ـ بات التقويم الجدّي للمرحلة المقبلة ينتظر الطريقة التي ستُخرج بها دمشق البيان الختامي الأحد المقبل ومقدار الإجماع عليه، في حضور الزعماء العرب أو ممثليهم. ومع أن القمم العربية تشهد في الغالب سجالات وأحياناً مشادات غير متوقعة بين الزعماء المشاركين في معرض مناقشة جدول الأعمال أو طرح المواقف، ولا تؤدي بالضرورة إلى تعطيل القمة، لا يعدو البيان الختامي كونه تسوية على الحدّ الأدنى لمجموع الآراء والمواقف المتداولة، من غير أن يضمّنها حلاً حقيقيّاً. ولا يفضي في كل حال إلى وضع هذه التسوية موضع التنفيذ.
كانت تلك حال إقرار مبادرة السلام التي كان قد اقترحها ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد وأقرّتها قمة فاس عام 1982، ثم أضحت مبادرة ولي العهد الخلف الأمير عبد الله في قمة بيروت عام 2002، ثم مبادرة الملك عبد الله في قمّة الرياض عام 2007. ولا تزال مبادرة السلام ـ كأول مبادرة عربية جماعية من ملك إلى ملك ـ حبراً على ورق.
على نحو كهذا لا تنتظر دمشق من نجاح قمتها إلا نجاح انعقادها بلا عراقيل وصخب يفجّرها، أو يجعلها تستعيد ما رافق قمة تونس عام 2004 عندما اضطر الرئيس زين العابدين بن علي إلى تأجيلها في 29 آذار شهرين بسبب خلافات نشبت بين الزعماء العرب، قبل أن تلتئم مجدّداً. تالياً، لا تنجح قمة عربية إلا عندما تنعقد، أياً يكن البيان الختامي. ولا يعني هذا الانعقاد إلا أحد مظهرين: تحقيق مصالحة بين زعماء عرب متناحرين كالمصالحة الأردنية ـ الفلسطينية في قمة القاهرة عام 1970، والمصالحة السورية ـ المصرية والسورية ـ الفلسطينية في قمتي الرياض والقاهرة عام 1976، أو تكيّف الزعماء العرب مع انقساماتهم وخلافاتهم شأن معظم القمم التي شاركوا فيها وهم مختلفون ولا يتبادل بعضهم التحية مع البعض الآخر، أو على غرار قمة بغداد عام 1978 التي طردت مصر من الجامعة العربية بعد توقيعها اتفاقات السلام، قبل أن تعود إليها في قمة 1989.
بذلك يكمن فحوى القمم في التئامها أولاً وأساساً، والذي لا يعدو كونه إلا اتفاقاً مسبقاً على جدول الأعمال والبيان الختامي.
وفي واقع الأمر، فإن عدم مقاطعة مصر والسعودية قمة دمشق ـ وإن تمثلتا بوزير وسفير ـ لم تجرّد الرئيس السوري بشار الأسد من شرعية ترؤسه القمة، ولا خطفت بريق انعقادها على أرض لم تعد، في الظاهر وفي نظر الزعماء العرب الملتئمين فيها، تمثّل دولة مشتبهاً بها. بذلك أضفى الرئيس حسني مبارك والملك عبدالله طابعاً شخصياً على خلافهما مع الأسد بتغيّبهما، ولم يحيلا الخلاف العميق معه ـ الشخصي في جانب جوهري منه بالنسبة إلى العاهل السعودي على الأقل ـ خلافاً على الشرعية التي لا يزال يمثلها النظام السوري باستضافته الدورة الجديدة للقمة وترؤسها حتى 29 آذار 2009.
وهكذا تبدو دمشق مطمئنة إلى انعقاد قمتها على أراضيها، وقد ذلّل من طريقها معظم العقبات، آخذة في الاعتبار معطيات بينها:
1 ـ تخلصها من الربط بين انعقاد القمة والوضع السياسي المعلق في لبنان منذ شغور رئاسة الجمهورية في هذا البلد قبل أربعة أشهر. وبعدما شعرت سوريا أنها كانت تستدرج إلى تقديم تنازلات سياسية كبيرة في الملف اللبناني، ترغمها على القبول بتسوية غير مرضية لها في مقابل التئام القمة العربية على أراضيها، بدءاً بانتخاب رئيس جديد للجمهورية والحؤول دون إضعاف فريق الغالبية النيابية وإفقاده زمام سيطرته على السلطة اللبنانية، ساعدها استنفادها الوقت ومناوراتها البطيئة في الأشهر المنصرمة على قلب الأولويات من غير أن تفقد تأثيرها الفاعل في مسار الأزمة اللبنانية.
وبمرور الوقت تقدّمت أولوية القمّة العربية، في انعقادها الدوري في دمشق، على معالجة الأزمة اللبنانية. وعوض أن تكون هذه هدفاً ملازماً لالتئام القمة، وفي بعض المرات شرطاً حتمياً له على غرار ما جهرت به القاهرة والرياض تكراراً، أضحى لبنان بنداً في جدول أعمال قمة عربية يرأسها الرئيس السوري بشار الأسد. أفضى ذلك إلى مقاربة الوضع اللبناني على أنه أزمة مستقلة في ذاتها، يناقشها اللبنانيون في ما بينهم.
2 ـ تدرك سوريا أن القمة العربية تنعقد من غير أن تضع نصب أعينها مصالحة مع السعودية وتطبيعاً للعلاقات مع مصر. وتالياً تستنتج أن الأيام التالية لارفضاض أعمال قمة دمشق ستشهد تصعيداً ربما يبلغ الذروة في الخلافات العربية ـ العربية، من غير أن تنفجر هذه في العاصمة السورية كي لا تنفجر القمة معها. وخلافاً لما بدا في الأسابيع المنصرمة رهاناً سعودياً ـ مصرياً على أن الضغوط العربية على دمشق ستحملها على التراخي واستجابة التسوية اللبنانية، تخرج دمشق بدورها من قمة السبت والأحد أكثر تصلباً حيال الوضع اللبناني. بل ستجد نفسها والرياض ـ وربما القاهرة التي لا تزال تمسك بخيط مشدود في علاقتها بالأسد ـ في حمأة تصعيد على الملفات الإقليمية الساخنة وأخصّها لبنان الذي سينتظر وقتاً طويلاً قبل أن يتوصّل إلى انتخاب رئيس جديد له.
3 ـ لن تخرج المبادرة العربية التي ترعاها الجامعة العربية من قمة دمشق على نحو ما كانت عليه منذ إطلاقها في 5 كانون الثاني وحتى الأحد المقبل. ورغم أن التوقعات تجزم بصدور موقف عربي جامع يكرّر دعم المبادرة والحضّ على تنفيذها وتكليف الأمين العام للجامعة عمرو موسى بذل مزيد من الجهود والتضامن مع لبنان لإخراجه من مأزقه الدستوري والسياسي، واقع الأمر أن التوازن السياسي الذي راعى وضع المبادرة سيفقد مبرّراته غداة القمة. وبعدما كانت دمشق قد قبلت على مضض بالمبادرة العربية التي لم تكن ترضيها تماماً، إلى أن جارت الضغوط العربية من أجل تحقيق إجماع عليها، وهي تعدّ العدة لانعقاد قمّتها على أراضيها بأقل مقدار من الاعتراضات والتحفظات، بات اليوم أي خوض في تسوية الأزمة اللبنانية يحمل سوريا على البحث عن عناصر مختلفة لهذه التسوية تجعلها شريكاً فعلياً ـ والأصحّ مؤسساً لها ـ لا داعماً لها على نحو ما دعيت دمشق إلى الاضطلاع به في اجتماعي وزراء الخارجية العرب في 5 كانون الثاني و27 منه.
وفي الاجتماع الأخير، استعادت مناورتها بأن رفضت تفسير المبادرة العربية خلافاً لما كانت تتوخاه منها.
على أن أي مبادرة جديدة تدعمها سوريا مجدّداً تريدها أن تنطلق من عناصر أكثر استعداداً لبناء توازن سياسي جديد بين الموالاة والمعارضة في لبنان، وبين سوريا والسلطة اللبنانية الحالية. الأمر الذي ترفضه الرياض والقاهرة على السواء، عرّابتا مبادرة 5 كانون الثاني.
يدفع ذلك إلى الاعتقاد بأن المبادرة العربية، لا الأزمة الدستورية والسياسية اللبنانية وحدها، ستكون في مأزق.